بكين وبلع الموس على الحدّين

بكين وبلع الموس على الحدّين

16 مارس 2022

صينيون في بكين في طابور انتظار أخذ عينات لفحص كوفيد 19 (14/3/2022/Getty)

+ الخط -

اختلف المحللون والمعلقون السياسيون بشأن معرفة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بقرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، غزو أوكرانيا من عدمه، وما يمكن أن يترتب على الالتزامات التي وردت في البيان الرئاسي الصيني الروسي، الذي صدر في بكين يوم 4 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، بعد وقوع الغزو، وما معنى المواقف المتذبذبة التي أعلنها المسؤولون الصينيون بعد الغزو.

المنطقي والراجح أنّ قرار الغزو لم يكن قد اتخذ عند صدور "البيان"، وأنّه جاء جزءاً من حملة الضغط الروسي الصيني الممنهج على الولايات المتحدة وحلف الناتو، وأنّه، في لحظته، يخدم الدولتين، يعزّز تأثير الحشد العسكري الروسي الكبير على الحدود الأوكرانية على موقف التحالف الغربي من المطالب الأمنية الروسية المتعلقة بسحب دعوة حلف الناتو أوكرانيا للانضمام إليه، وسحب موارد "الناتو" وقدراته العسكرية من أراضي الدول التي التحقت به بعد العام 1997. ويعزّز، في حال قبول هذه المطالب، موقف الصين التفاوضي، إنْ حول تايوان أو حول مطالبها في بحري الصين، الجنوبي والشرقي.

لم ينجح "البيان" العتيد في ثني التحالف الغربي ودفعه إلى القبول بالمطالب الأمنية الروسية، ما وضع الرئيس الروسي في موقفٍ صعب، في ضوء الاستثمار الكبير الذي وظّفه في الملف الأوكراني، والتعبئة السياسية والشعبية ضد العداء الغربي لروسيا، وتهديده أمنها القومي، عبر الزحف نحو حدودها الغربية وتطويقها ومحاصرتها لتفكيكها والقضاء على استقلالها وسيادتها. وهذا جعل الغزو ضرورياً لحفظ ماء وجه الرئيس الروسي، والحفاظ على الشعبية التي يتمتع بها، وهو على أبواب انتخابات رئاسية عام 2024.

جاء الغزو الروسي أوكرانيا على الضد من تصوّر وتوقّع الرئيس الصيني الذي وقع على "البيان" مع الرئيس الروسي، على خلفية تشكيل جبهة سياسية ضد الولايات المتحدة، وليس بياناً لتحالف استراتيجي يُلزم الصين بالمشاركة في الغزو أو تقديم دعم عسكري ولوجستي مباشر لروسيا، حيث لم تكن الحرب في خطته أو تصوّره. أصيبت الصين بصدمة كبيرة نتيجة وقوع الغزو، جعلتها في حالة من الحيرة والارتباك، وفق الصحافي الأميركي، ماثيو بروكر، في تقريره في وكالة "بلومبرغ". وقد زاد الطين بلة أنّ الغزو قد حفّز التحالف الغربي، بعدما كان في حالة غياب ثقة بين ضفتي الأطلسي، وبروز ميول أوروبية إلى تشكيل قوات خاصة للدفاع عن أمنها الوطني. وأعاد إليه تماسكه وتضافر دوله وتعزيز تحالفها وإطلاق دورة جديدة للمشاريع العسكرية والتقنية المتطورة، ما سينعكس سلباً على الصين، في صراعها مع الولايات المتحدة. لذا بدأ بضبط سياسته الخارجية وفق حساباتٍ مصلحيةٍ صينيةٍ بحتة، قائمة على توازن دقيق بين طرفي الصراع، بحيث لا يخسر علاقاته التجارية الواسعة مع دول التحالف الغربي، وهي كبيرة واستراتيجية، ولا يخسر، في الوقت نفسه، تنسيقه السياسي، وتعاونه مع روسيا، خصوصا في مجالي الطاقة والتسلح. وقد تجلى ذلك بوضوح، في مواقف المسؤولين الصينيين وتصريحاتهم، بمن فيهم الرئيس، حيث انطوت تلك المواقف والتصريحات على توازن دقيق بين دعوة إلى تلبية مطالب روسيا الأمنية ورفض العقوبات الغربية عليها وعدم إدانة الغزو، ورفع القيود التي كانت تفرضها على وارداتها من القمح الروسي، وترويج السردية الروسية عن الغزو ووقائعه والمختبرات الكيميائية والبيولوجية الأميركية في أوكرانيا، عبر قنوات تلفزيونية رسمية موجهة إلى الخارج، من جهة، وعدم تأييد الغزو والدعوة إلى احترام استقلال الدول وسيادتها ووحدة أراضيها، بما في ذلك أوكرانيا، وفق وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، وشجبه الصراع وتعبيره عن القلق البالغ إزاء وقوع أذىً للمدنيين، والامتناع عن مساعدة روسيا في الالتفاف على العقوبات الحالية. وقد أوقف مصرفان صينيان تمويل مشترياتٍ للسلع الروسية بالدولار الأميركي، ووافقا، في الوقت نفسه، على قبول تسديد المدفوعات الروسية المستحقة باليوان الصيني. ودعت بكين إلى حلّ سياسي للصراع من دون مطالبة روسيا بوقف الغزو.

ليس أمام الصين إلّا مخرج واحد، ينقذها من الموقف الدقيق والحساس الذي تواجهه، وهو لعب دور في وقف الحرب

وضع الغزو الروسي لأوكرانيا الصين في موقف دقيق وحسّاس، في ضوء تطلعاتها الجيوسياسية والجيوستراتيجية، فتطلعاتها تستدعي السعي إلى احتلال موقع مركزي في النظام الدولي، عبر إضعاف الولايات المتحدة، على خلفية إمساكها بقواعد عمل النظام الدولي القائم وآلياته، وهذا يفرض الوقوف إلى جانب روسيا في صراعها مع التحالف الغربي، لأنّها في صراعها هذا تساهم في تحقيق هدفهما المشترك: إضعاف الولايات المتحدة. لكنّ الوقوف مع روسيا يتعارض مع مبادئ سياستها الخارجية القائمة على احترام سيادة الدول ورفض التدخل في شؤونها الداخلية ويضرب مصداقيتها السياسية والأخلاقية، كما أنّ وقوفها إلى جانب روسيا ينعكس سلباً على علاقاتها الاقتصادية والتجارية الكبيرة والواسعة مع دول التحالف الغربي وعلى صورتها ومكانتها في العالم. وإدانتها الغزو الروسي والعمل على وقفه أو دعم الدولة الأوكرانية المعتدى على سيادتها واستقلالها يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة، منافستها الاستراتيجية وحليفة خصومها الإقليميين، ويقويها في مواجهتها، فسعيها إلى تحقيق هدفها الأول يقتضي منها الوقوف مع الغزو الروسي، وسعيها إلى تحقيق أهداف سياستها الخارجية يقتضي الوقوف ضد غزو أوكرانيا.

غير أن دقّة الموقف وخطورته لا تكمنان في قدرة الصين على موازنة موقفها بين طرفي الصراع ونجاحها في ذلك، بل في نشوء مثلث برمودا سياسي منها ومن الولايات المتحدة وروسيا، له دينامية خطرة. وقد سبق للعالم معايشة تجربة المثلث قبيل خمسين عاماً ونيف، حين أقنعت الولايات المتحدة الصين بالانضمام إليها في مواجهة عدوهما المشترك، الاتحاد السوفييتي، والتي - التجربة - لعبت دوراً في تغيير ميزان القوى الدولي، حيث نهضت الصين، بدعم كبير من الولايات المتحدة، وحقّقت قفزات في مجالات الصناعة والتنمية والبنى التحتية والخدمية خلال فترة قصيرة نسبياً، ثلاثة عقود، جعلتها مصنع العالم والدولة الثانية في الاقتصاد الدولي ومكّنتها من انتشال حوالي 800 مليون صيني من الفقر، في حين انهار الاتحاد السوفييتي، ودخلت وريثته، روسيا، في فوضى وانعدام وزن عقدين.

وضع الغزو الروسي لأوكرانيا الصين في موقف دقيق وحسّاس، في ضوء تطلعاتها الجيوسياسية والجيوستراتيجية

وتعود التجربة مع تغيّر العلاقة داخل المثلث، من تحالف أميركي صيني ضد الاتحاد السوفييتي إلى تعاون روسي صيني ضد الولايات المتحدة، وما ينطوي عليه من مخاطر وفرص لعل أولها خطر خسارة الصين علاقاتها مع دول التحالف الغربي، شركائها التجاريين، حيث فاقت التجارة معهم التريليون ونصف التريليون دولار سنويا، في حين لم تتجاوز تجارتها مع روسيا الـ 146 مليار دولار، وحرمانها من تقنيات غربية جديدة. وثاني المخاطر ما يمكن أن يترتّب على نتائج الصراع، إن في حال وقف الحرب بصيغة لا غالب ولا مغلوب، أو في حال تحقيق أحد الطرفين نصراً بيناً، من قيام توازن قوى جديد يؤثر على المواقع والأدوار في النظام الدولي، ففوز الولايات المتحدة التي كانت، قبل فترة قصيرة، تعمل على إبعاد روسيا عن الصين، وتعمل الآن على إبعاد الصين عن روسيا، فالصراع سيعني للصين مزيداً من المنافسة، سياسياً وتجارياً وأمنياً، على الساحتين، الإقليمية والدولية، وتفرّغ التحالف الغربي لها وتقييده قدرتها على فرض تصوراتها في المحيطين، الهندي والهادئ، ومنعها من احتلال موقع مركزي في النظام الدولي. أما فوز روسيا فسيعني لها ترجيح كفّة روسيا في العلاقة الثنائية معها، على خلفية فرض شروطها على النظام الدولي الوليد وتعزيز مكانتها الدولية، مستندة إلى القدرات النووية الضخمة التي تملك 6257 رأساً نووياً مقابل 350 رأساً نووياً صينياً، في حين أنّها - روسيا - في المعادلة الراهنة أسيرة موقف الصين، التي غدت، بعد العقوبات الغربية الكثيفة والثقيلة، رئتها الوحيدة، ومنقذتها من الانهيار والدمار. هذا إذا رضيت تحدّي التحالف الغربي ودعمتها اقتصاديا، بما يتيح لمجتمعها توفير احتياجاته الأساسية، وحفظ استقراره، ولجيشها مواصلة العمليات العسكرية وضمان إحكام سيطرتها على المساحة الجيوسياسية التي تراها ضرورية لأمنها القومي ومكانتها الدولية.

مأزق الرئيس الروسي أنّه لم يلتفت إلى درس صعود القوى العظمى وسقوطها، حيث المعادلة وفق المؤرخ الأميركي، بول كينيدي: امتلاك اقتصاد قوي قادر على تمويل جيش، يحقّق الصعود، واقتصاد عاجز عن تمويل جيش يؤدّي إلى السقوط، علماً أنّ فوز روسيا في الصراع ليس في مصلحة الصين التي تتنافس معها، ليس على المصالح الاقتصادية في آسيا الوسطى، الذي تجلى، بوضوح، بتجنّبها مرور مشاريع الحزام والطريق في الأراضي الروسية، بل على النفوذ السياسي والمكانة في المعادلة الدولية، ناهيك بالصراع على الجغرافيا، إذ ترى الصين نفسها صاحبة حق في مساحات واسعة من أراض آسيوية، استحوذت عليها روسيا في مرحلة ضعف الصين، ليس على قاعدة الملكية التاريخية والقومية، بل في سياق سياسة ملء الفراغ. وهزيمة روسيا ليست في صالحها، لأنّها ستجعل منها هدفاً سهلاً للغرب، في غياب قوى وازنة تقف معها في وجه الولايات المتحدة والنظام الدولي الذي تديره.

ليس أمام الصين إلّا مخرج واحد، ينقذها من الموقف الدقيق والحساس الذي تواجهه، وهو لعب دور في وقف الحرب، والمساهمة الفعّالة في الاتفاق على حلّ سياسي، يحفظ ماء وجه الرئيس الروسي، ويحفظ لأوكرانيا استقلالها وسيادتها، فتعزّز دورها ومكانتها لدى الطرفين، وتكرّس نفسها قوة عظمى من وزن روسيا والولايات المتحدة.