انقلاب النيجر... تصدّع الداخل قبل تكالب الخارج

انقلاب النيجر... تصدّع الداخل قبل تكالب الخارج

06 اغسطس 2023

امرأة تحمل صورة امحمد بازوم في احتجاج أمام سفارة النيجر في باريس (5/8/2023/فرانس برس)

+ الخط -

التحقت النيجر، 26 الشهر الماضي (يوليو/ تموز) بقائمة الدول التي شهدت انقلابا في منطقة الساحل، في الثلاث سنوات الأخيرة، بعد الجارتين مالي (2020) وبوركينا فاسو (2022)، بعد تنحية جماعة من الحرس الرئاسي الرئيس محمد بازوم عن الحكم، إثر "ثورة صغيرة" تعيشها البلاد، منذ أداء الرئيس اليمين الدستورية، في 2 أبريل/ نيسان 2021، في أول تداول سلمي على السلطة منذ استقلال النيجر عن الاستعمار الفرنسي في 3 أغسطس/ آب 1960.

لا تزال الصورة غير واضحة في النيجر، فالمساعي متواصلة على أكثر من صعيد لاستعادة الحكم المدني، بتوالي محاولات الوساطة (بنين، تشاد ...) التي لم تتوقف منذ الإعلان عن قلب نظام الحكم، فضلا عن دعوات دول عديدة قادة الانقلاب إلى إعادة الرئيس الشرعي المنتخب ديمقراطيا إلى السلطة. ولم يتردّد قادة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، في التهديد باستخدام القوة، إن اقتضى الحال، لإعادة النظام الدستوري إلى البلاد، في ختام قمّتهم الطارئة بشأن النيجر.

يُعزى الغموض الذي يلف المشهد في البلد إلى تعدّد الروايات التي سيقت لتفسير ما يجري، في دولة شكلت الانقلابات جانبا مهما من تاريخها السياسي، فآخر انقلاب ناجح كان في فبراير/ شباط عام 2010، أطاح حينها الرئيس المنتخب مامادو تانجا في أثناء اجتماع حكومي، من دون تعداد المحاولات الانقلابية الفاشلة التي كان للرئيس بازوم منها نصيب؛ إحداهما في 31 مارس/ آذار 2021؛ أي قبل يومين من أدائه اليمين الدستورية، والأخرى بعد سنة حين كان في زيارة إلى تركيا.

كانت محاولة الرئيس محمد بازوم تطهير بنية الدولة، بتقليص أذرع سلفه داخل المؤسّسات والأجهزة، من خلال تشكيل فريق خاص يثق فيه ويطمئن إليه، سببا مباشرة وراء تعجيل إطاحته

صحيح أن السياق الإقليمي يشجع وبقوة على تنفيذ الانقلابات، مع تأكد "نظرية العدوى الانقلابية"، فخلال الأعوام الأخيرة كانت المنطقة مسرحا لسبعة انقلابات؛ مرتين في كل من مالي (2020 و2021) وبوركينا فاسو (2022)، وانقلاب في كل من غينيا (2021) وتشاد (2021) والسودان (2021). ناهيك عن تطوّرات السياق الدولي التي حوّلت منطقة غرب أفريقيا إلى بؤرة للصراع والتنافس بين المعسكرين القديم والجديد؛ فباريس، ممثلة الأول، تدافع باستماتة عن الاستقرار؛ المرادف الموضوعي لاستغلال عمره عقود، فيما تحاول موسكو، ممثلة الثاني، تسخير كل الأساليب الناعمة والخشنة لبسط نفوذها على أوسع نطاق داخل القارّة الأفريقية.

وصحيح أيضا أن النيجر إلى جانب تشاد هما آخر الشركاء الاستراتيجيين الرئيسيين لفرنسا في المنطقة، فقد كانت وجهة القوات الفرنسية المشاركة في عملية برخان، بعد مغادرتها مالي، وكانت نيامي رهان ماكرون لإعادة صياغة استراتيجية فرنسا في منطقة الساحل، فضلا عن كونها قاعدة استخباراتية لأكثر من دولة في المعسكر الغربي (الولايات المتحدة، ألمانيا ...). وقبل ذلك مصدر موارد طبيعية مهمة، في مقدّمتها اليورانيوم، حيث تساهم بنسبة 7% من الإنتاج العالمي، وتستخدمه باريس للحصول على 35% من احتياجاتها بهدف توليد الكهرباء.

يظهر أن انقلاب النيجر وثيق الصلة بتقلبات الداخل أكثر من تأثيرات الخارج، فإطاحة الرئيس محمد بازوم مرتبط، في المقام الأول، بموازين القوى داخل النظام السياسي وتعقيداته، وإن حرص القادة العسكريون على تورية ذلك، بتوجيه الأنظار نحو الخارج، بتسويق دعايةٍ تتهم الرئيس المخلوع بالولاء والعمالة لفرنسا، مستغلين تصاعد مشاعر العداء للوجود الفرنسي بالمنطقة، رغم أن سياساته استمرار لنهج سلفه.

منذ توليه مقاليد السلطة، ربيع 2021، خلفا للرئيس محمد إيسوفو الذي حكم ولايتين (2011-2021)، باسم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، خاض الرئيس الجديد محمد بازوم صراعا صامتا على النفوذ في دواليب الدولة، ما وضعه في مواجهة مباشرة مع أكثر من جهة داخل النظام، في سعيه وراء تنفيذ صلاحياته الدستورية. وكان ذلك سببا وراء تأخير تعيين أعضاء الحكومة سبعة أشهر، بعد رفضه قائمة الترشيحات الوزارية التي تقدّم بها الرئيس السابق؛ الحاضر الغائب في الشأن النيجيري.

كانت محاولة الرجل تطهير بنية الدولة، بتقليص أذرع سلفه داخل المؤسّسات والأجهزة، من خلال تشكيل فريق خاص يثق فيه ويطمئن إليه، سببا مباشرة وراء تعجيل إطاحته. وكان المستهدف بمحاولة العزل شخصيا وراء عملية الانقلاب رئيس الحرس الرئاسي الجنرال عبد الرحمن تشياني، أكثر الرجال ولاء للزعيم إيسوفو الذي اعتبره كثيرون أداته، غير المباشرة، لإخضاع الرئيس الجديد وتطويعه.

يزيد الاستقواء بالخارج الأمر فظاعة؛ فالشعوب منقسمةٌ بين متمسّك بفرنسا حامية البلاد والعباد، ومرحّب بروسيا محرّرة الأفراد والأوطان

أعاد تمرّد الرئيس بازوم على الحرس القديم إلى الواجهة أسئلة بشأن عملية الهندسة الانتخابية، فحينها راج الكثير عن اللعبة الديمقراطية، خصوصا ما يتعلق بدور إيسوفو في ترشّح بازوم وفوزه في الانتخابات؛ رغم انحداره من أقلية إثنية في النيجر، فالرجل ذو أصول عربية تعود إلى قبيلة أولاد سليمان القادمة من ليبيا، ما حدا بأصوات إلى اعتباره أجنبيا غير جدير بمنصب رئيس دولة. رأى معارضون المدخل العرقي أداةً مناسبةً تسهل التحكّم في الرئيس الجديد، من النظام الذي أوصله إلى الحكم، لافتقاده سندا قبليا على غرار سلفه المنتمي لإثنية الهوسا ذات الأغلبية في البلد.

ما يحدُث مثال حي عن أعطاب الديمقراطية في أفريقيا (راجع مقال الكاتب "نيجيريا... انتخابات رئاسية بديمقراطية عرقية" في "العربي الجديد" 9 /3/ 2023)، فبدل تأسيس تعاقد انتخابي، على مفاهيم عصرية وثيقة الصلة بفكرة الدولة، أساسُه الأفكار والمشاريع والبرامج، تصطحب الشعوب مؤسّسات تقليدية (العرق، القبيلة...) لزجّها في ممارسة حديثة، فنكون أمام ممارسة ظاهرها ديمقراطي وباطنها عرقي؛ "ديمقراطية عرقية". تمتدّ آثار ذلك إلى فكرة الولاء، فبدل الولاء للدولة والمؤسّسات يصبح الولاء للأشخاص والجماعات. لعل هذا يفسّر التحولات المتسارعة في مواقف بقية الأجهزة، فالحرس الرئاسي أو قوات النخبة فقط من كانت وراء الانقلاب دون بقية وحدات الجيش أو الحرس الوطني، لكن سرعان ما تحوّلت تباعا إلى صف الداعمين للانقلاب، لتصير المحاولة انقلابا مكتمل الأركان بعد مباركة قادة الجيش له.

من جديد، تسقط الديمقراطية ضحية في أفريقيا، فكل فصيل يقدّم نفسه مدافعا عنها؛ فالرئيس المخلوع يدعو إلى "إنقاذ المكاسب الديمقراطية التي تم الحصول عليها"، بينما تعهّد الحكّام الجدد من قوات النخبة "بالحفاظ على الديمقراطية واستعادة حكم القانون". ويزيد الاستقواء بالخارج الأمر فظاعة؛ فالشعوب منقسمةٌ بين متمسّك بفرنسا حامية البلاد والعباد، ومرحّب بروسيا محرّرة الأفراد والأوطان. بذلك يصنع الأفارقة من أنفسهم ضحايا أنفسهم، في مسلسل قديم يتجدّد، من الولاء والخيانة والتأييد والرفض ... يسقط أي حلم بغدٍ أفضل لأفريقيا والأفارقة.

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري