انعكاس المطبوع في النضال عن فلسطين

انعكاس المطبوع في النضال عن فلسطين

20 مايو 2021
+ الخط -

حتى بمقاييس عالمنا الغرائبي الراهن، فإن المشهد الفلسطيني يواجهنا بحالةٍ تتحدّى المعقول. غزة، أفقر بقعة في العالم العربي، وأشدّها تعرضاً للقهر والحصار، من العرب قبل إسرائيل، تتصدّى للقهر الصهيوني والتعدّيات على المدنيين في أكناف بيت المقدس، نيابةً عن أمة عربية لا ينقصها السلاح ولا المال ولا الرجال. في زمان انقلاب الموضوع وانعكاس المطبوع هذا، الفقراء يقاتلون نيابةً عن المترفين، والعزّل يدافعون عن شرف جيوش تزعم أنها خير أجناد الأرض، وتكدّس سلاحاً لا يستخدم إلا ضد شعوبها. الحفاة الشرفاء في غزة يواجهون أحد أقوى جيوش العالم، والجنرالات أصحاب الأوسمة، الذين تكسّبوا كثيراً من المساهمة في حصار غزة، "يتوسطون" لوقف "الحرب"!

لو أن عقلاء في غير زماننا هذا سمعوا بمثل هذه الحكاية في أسطورةٍ من أساطير الأولين، لاتهموا راويها بالخبال، ما لم يحسّنها بالحديث عن تدخل الجن أو العفاريت. ففي أي عالمٍ من الأكوان الموازية يترك الأقوياء الأغنياء المزوّدون بكل سلاح حربي وإعلامي ودبلوماسي مهمة الدفاع عن حقوق الفقراء العزّل المحاصرين، ثم يتفرّجون عليهم على شاشات التلفزة، وهم على الأرائك متكئون، يحتسون القهوة من مقاهٍ تتبرّع بما تتكسّب منهم للمعتدين؟ في أي عالم من عوالم الخيال الجامح يناضل المشرّدون من بيوتهم عن أصحاب القصور، ويحارب العزّل عن الجند المجنّدة، ويناضل المعتقلون بأمعائهم الخاوية عن المتخمين وحرّاسهم في قلاعهم الآمنة؟

الحفاة الشرفاء في غزة يواجهون أحد أقوى جيوش العالم، والجنرالات أصحاب الأوسمة، الذين تكسّبوا كثيراً من المساهمة في حصار غزة، "يتوسطون" لوقف "الحرب"!

هذه الظاهرة تخلق وضعاً في غاية الغرابة والمخالفة لطبائع الأمور، والالتزامات الأخلاقية. ففي كل مكان في العالم، وفي كل أزمان التاريخ، يهبّ الأقوياء لنجدة الضعفاء، ويتداعى الأحرار للدفاع عن الأسرى، وتنتفض الدول والأنظمة للوقوف مع المهجّرين والأسرى. وقد شرع الجهاد في الإسلام لنصرة المستضعفين، كما جاء في الآية: "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا، واجعل لنا من لدنك نصيرا". وقد سارت على هذه السيرة المنظومات الدولية الحديثة، حيث نشأت الأمم المتحدة على أساس تضامن العالمين ضد الظلم العدوان، وبدأت أول ما بدأت بإرساء قيم حقوق الإنسان ومنع الإبادة الجماعية، ونصّت مواثيقها على التضامن لردع العدوان وردّه إن وقع. وعلى مثل هذا، قامت المنظمّات المدنية والدولية للتضامن مع ضحايا الظلم والبغي من كل صنف، حتى إن دعا الأمر إلى تجييش الجيوش لذلك، حسب ما ينص عليه الفصل السابع من ميثاق المنظمة.

وفي الحالة العربية أيضاً، تداعت الجيوش حينما نزلت نازلة العدوان الصهيوني لنصرة أهل فلسطين العزّل كما هو واجبها. وعندما هزمت هذه الجيوش سيئة الإعداد شرّ هزيمة، خصوصاً بعد أن تنازع قادة الدول ففشلوا وذهبت ريحهم، انتفضت الشعوب والجيوش لاستبدال أنظمةٍ بأخرى، أظهرت الهمّة في العمل على رد الحقوق لأهل فلسطين، الذين انضموا بدورهم إلى كتائب المقاتلين. ولكن بعد هزيمة يونيو/ حزيران المنكرة، وإلى حد كبير بعد نصف النصر في أكتوبر/ تشرين الأول 1973، نكص العرب عن هذا الواجب، وأصبح كل زعيم يقول: نفسي نفسي! فساومت مصر على سيناء وقناة السويس (ناسيةً غزة)، كأنها لم تخسر هذه لأنها كانت تدافع عن فلسطين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت غاية كل دولة السلامة. وبينما شجّع العرب الفلسطينيين على تنظيم أنفسهم للقتال لتبرير قعود الآخرين ورفعاً للعتب، إلا أن الأنظمة والدول لم تسمح للفلسطينيين بالقتال، بل لم تتركهم وشأنهم، حيث أصبحت تزرع بينهم الفتن، وتستخدمهم لأغراضها الذاتية.

العالم كله يعترف بأن غزّة أرض محتلة، لا سلطان شرعياً لإسرائيل عليها

وعندما بدأت بعض الدول تسعى في ما سمّي سلاماً، زادت الحرب اشتعالاً ضد الفلسطينيين. فمع "كامب ديفيد" جاءت الهجمات على جنوب لبنان، وهكذا. ومع كل "تطبيع" تجيء كارثة أخرى، من قمع انتفاضات، أو تهجير واستيطان، أو ضربٍ للمخيمات، فما سمّي ويسمّى سلاماً هو في حقيقته احتشاد عربي ضمن جيش الاحتلال، فالحرب قائمة، ولكن بعضهم ينتقل فيها من معسكر إلى آخر، فلم يكن بدعاً أن يأتي تهجير أهل "الشيخ جرّاح" والعدوان الفجّ على المسجد الأقصى مع زيادة عدد السفارات العربية في جوارهما. ولعلها مفارقة أنه لولا وجود المقاومة، لما وجد المطبّعون لما هو غير طبيعي ترحيباً، ولكسدت بضاعة الخيانة والتربّح من القضية.

وقد بلغ الأمر حد محاولة تبرير التخاذل بالتحامل على الفلسطينيين، بدعوى أنهم هم من خذل القضية، وتقاعس عن النضال في سبيلها، بل وباعوا أراضيهم للصهاينة! وبالطبع، لا صحة لهذه الترّهات، لأن إسرائيل استولت على معظم الأرض غصباً، وبقوة السلاح، بعد أن طردت أهلها. وكثير من الفلسطينيين يقيمون اليوم على مسافة قريبة من بيوتهم، ولا يُسمح لهم بالوصول إليها. وكما نرى في حالة "الشيخ جراح"، ها هم يدافعون عن مساكنهم ضد التهجير الثاني بأجسادهم. ولكن ليست هذه المسألة، لأن القضية أن تحرير الأرض المغتصبة ليس واجب الأسرى فيها، بل واجب الأحرار خارجها. وهذا بالأخص لأن إسرائيل لم تنتزع القدس وغزّة من سلطة فلسطينية، وإنما هذه الأراضي كانت أمانةً في يد دول عربية مجاورة، منعت أهلها حينما كانوا تحت حكمها من تنظيم جيشٍ يحميها. فعلى تلك الجيوش العربية التي ولّت الأدبار أن تقوم هي باستردادها، فلو أن خير الأجناد الأرض أخذ أسلحته المكدّسة في صحاري بلاده ودخل إلى غزة فاتحاً، لما كان عليه عتب، لأن العالم كله يعترف بأن غزّة أرض محتلة، لا سلطان شرعياً لإسرائيل عليها.

ليس مدعاة العجب بطولة المنافحين عن الحق، بل فضيحة المتفرّجين على هذه الملحمة، وفضيحة العالم بأجمعه

نكرّر أنه في العرف القديم والجديد، رد العدوان هو فرض كفاية على القادرين، بحسب المواثيق الأممية وغيرها. وفي هذا الإطار، لو أن مسلمي الروهينغيا أو إقليم سانجان دافعوا عن أنفسهم ضد من يشرّدهم أو يسعى إلى فتنتهم عن دينهم، لوصموا فوراً بأنهم إرهابيون، واتخذت هذه ذريعة أخرى لتبرير عدوان المعتدين وتخاذل المتخاذلين.

الآن نحن في مشهد آخر: الأسرى المحاصرون يتقدّمون صفوف رد العدوان: "الدولة" العربية الوحيدة التي لا تعتبر دولة، وليس لها جيش، تتصدّى لأقوى جيوش العالم؛ من لا يجدون قوت يومهم ولا دواء مصابيهم، يقاتلون عن العالم كله: أصبحوا هم الأمم المتحدة و"الناتو" وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وفلسطين والعرب ودار الإسلام. الآخرون يتفرّجون ويهتفون، وبعضهم يستهزئ أو يدين، فليس مدعاة العجب بطولة المنافحين عن الحق، بل فضيحة المتفرّجين على هذه الملحمة، وفضيحة العالم بأجمعه!

سؤال أخير: كيف تصبح روايتنا للحكاية المشهورة لو أن الخليفة المعتصم أرسل رسولاً إلى عمورية، عندما بلغته صرخة فتاتها الشهيرة: "وامعتصماه"، يحثّ نساء عمورية على التظاهر نصرة لصاحبتهن، ويجلس مع ندمائه يسخر من قلة عدد المتظاهرات وضعف هتافهن؟

822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي