انتخابات يتصدّى لنتائجها حُرّاس جهنّم

انتخابات يتصدّى لنتائجها حُرّاس جهنّم

26 مايو 2022

عملية فرز أصوات ناخبين في بيروت تحت ضوء المصابيخ لانقطاع الكهرباء (15/5/2022/الأناضول)

+ الخط -

تفوّق قادة المنظومة في لبنان على أنفسهم أخيراً. لم يعِيفوا وسيلة إلّا وسخّروها من أجل أن ينتصروا في الانتخابات النيابية، ويخرجوا منها بأكثرية ساحقة تبلغ الثلثين. قالها عميدهم، حسن نصر الله، بالفم الملآن. نريد ثلثَي النواب ليستقر الحكم إلينا. الحُكم بعد التَحكَّم، أو الاثنان معاً. وكانت ذخيرتهم من العيارات المتنوعة: قانون الانتخاب نفسه أولاً، ومفصَّل بدقة على قياس طوائفهم. ثم التخوين: من لا يصوِّت لنا إنما يصوّت لأميركا وإسرائيل والتطبيع. التكليف الشرعي ثالثاً، أو التكفير، وبلسان وكلائهم من المشايخ: التصويت ذاته، إذا حصل لصالح "العدو" فإنّ صاحبه يُعدّ خارجاً عن دينه. الترهيب الجسدي: بالكسر، بالضرب، بالدرّاجات النارية، بالاعتداء على جمهور وعلى مرشح علناً، تحت الشمس، من دون الحاجة إلى العتْمة. والسحْب خامساً: سحب المرشّحين الشيعة من لوائح معارِضة جدّية، تحت تهديداتٍ غير علنية، يحزر الجميع تفاصيلها لكثرة تكرارها في وقائع أخرى. الرشاوى: موزّعةٌ بالعدل بين أطراف المنظومة، متنوّعة الأشكال. وقد توسّع خيال الرشوة في هذه الانتخابات بعد الانهيار العظيم، وتحوُّل اللبنانيين إلى شحّاذين. التجاهل والتسخيف والتشهير، كانت أدوات "أخلاقية" المنظومة المرشّحين عن خصومهم. كالوا لهم الموبقات والشائعات، وأمعنوا في ازدراء مرشّحيهم، والحطّ من شأنهم. سابعاً، مقاطعة الحريري النشطة: لم يجدوا "النظير" السنّي، "التوافقي"، البديل عنه فكانت النتيجة عكسية، حرية أكبر للسنّة بالتصويت لمن يجدونه الأفضل. وأخيراً انهيار لبنان: الذي قيل عن أبنائه إنّهم "خلاص" تكيّفوا ارتضوا تعبوا ولن تخرج منهم "آه" واحدة متوجّعة، شعب الفينيق هذا. وقد تبهْدل الفينيق: صار معناه الموت والخنوع، بدل الصمود والانبعاث من جديد.

مع ذلك كله، كانت المفاجأة المدوّية. السنّة انفجروا، وتوزّعوا بين "مستقلين" و"سياديين" و"تغييريين". بعض من رجال آل الأسد المشرَّشين، الأبديين، طاروا، ولم يصدّقوا، وينوون رفع الطعن بالنتائج. الدروز اخترِقوا، المسيحيون تناحروا بين عونيين وقواتٍ وتغييريين، الشيعة أغلقت عليهم أبواب أي تغيير، ولم يخرج منهم واحد عن "الثنائي". فبدوا وكأنهم آخر القلاع الحصينة للتسلّط والظلامية، بعدما كانوا شعلة التقدّمية والتغيير قبل نصف قرن.

خمسة عشر نائبا فازوا في الانتخابات من دون برطيل، ولا ظهور مدفوع على الشاشات والمواقع، ولا صور على الطرقات

ليست النتيجة مدوّية وحسب. إنّها سابقة في تاريخ لبنان كله. لأول مرّة، يصعد إلى برلمانه رجال ونساء من جيل الشباب، أصحاب مهن حديثة، أساتذة جامعات، أطباء، معماريون، محامون .. لا يملكون ما يرشون به ناخبيهم، ولا "شعلة" يتسلمونها من أبٍ أو جدٍّ أو نسيب. رجال ونساء بنداوة الجدد على الحياة السياسية. في سلوكهم نظافة، وفي خطابهم ما يعِدنا بالكثير. خمسة عشر منهم فازوا في الانتخابات من دون برطيل، ولا ظهور مدفوع على الشاشات والمواقع، ولا صور على الطرقات .. إلخ.

وأهم ما في هذا النجاح أنّه يعفي المواطن الساخط على المنظومة من تأييد "القوات اللبنانية" (سمير جعجع). وهذه مشكلةٌ واجهها كثيرون، إذ كان سمير جعجع يحشُد لحزبه بناء على هذا العداء للمنظومة، ويلاقي تجاوباً بين شرائح ليست بالضرورة "قواتية" لكنّها مناهضة لحزب الله، حارس المنظومة، وقائدها الأعلى. والآن، صار لهؤلاء المناهضين صوت برلماني يعارض هذا الحزب بغير منطق المنظومة، والذي لم يخرج عنه حزب القوات اللبنانية إلّا مؤقتاً، بسبب خسائر مُني بها، لا تخصّ مصلحة الشعب اللبناني.

لكنّ الترقب واجب. وثمّة مخاطر تهدد هذه النتيجة. رغم أنّها تفتح بعض النوافذ والحركة: فالذي خرجَ حتى الآن إلى الإعلام عن الشخصيات التغييرية الفائزة في البرلمان، تعتريه شوائب: نائبة فائزة تتكلم وكأنها تقدّم لقطة هابطة على "التيك توك"، بتعبيرات إنكليزية فرنسية وقليل من العربية، وبلهجة مائعة .. هي نفسها كانت قبل الانتخابات قد غرّدت بضرورة إبادة اللاجئين السوريين الذين "خرّبوا لبنان!". الفائز الثاني احتفل بفوزه وهو محمول، يغنّي، بصوت ناشز، حبّه بشار الأسد. والثالث صرّح لتلفزيون المنار إنّه "ليس ضد المقاومة" وهي عبارة يعرف الجميع أنّها صادرة عمّن يقف في الوسط بين تأييد حزب الله و"ضرورات المرحلة". والرابع أخذ على أحد مطالب الثورة، الزواج المدني، ما يأخذه الإسلاميون عليه، كما لو كان يعدّ للحملة التي تخوضها الآن المراجع الإسلامية بشراسةٍ ضد هذا الزواج.

أهم ما في هذا النجاح أنّه يعفي المواطن الساخط على المنظومة من تأييد "القوات اللبنانية"

خطرٌ آخر يتسلّل إلى نوّاب الثورة، من دون عناء يُذكر. فالمجتمع اللبناني، من المواطن إلى الزعيم، يكاد يقوم عليه. إنه خطر "نظام النجومية". وأداته التلفزيون، ومواقع التواصل، والإعلام اليوتيوبي. ومعروفٌ عن كلّ من اعتاد الظهور على الشاشة كم أنّ هذه الأخيرة تلْحس المخّ، وتجعل صاحبه لا يفكّر بغير "الريتينغ". انظر إلى جبران باسيل مثلاً، أقوى نجم إعلامي. يثابر على إلقاء الأكاذيب الصرْفة، يميناً شمالاً "علاك مصدّي" وغرضه "الإستراتيجي" الحضور الدائم، الصاخب، أي "الرايتينغ" الذي وحده يؤمن "التمثيل السياسي" على ما يعتقد. ولا يجاريه في هذه الخصْلة غير حسن نصر الله، الأكثر دهاءً، والذي يتباهى إعلامه بأنّ إسرائيل تجده "ذكياً".

لكنّ الخطرَين ليسا شيئاً أمام اختباراتٍ سوف تواجه نوابنا التغييريين. اختبار التنسيق في ما بينهم، بعدما أخفقوا في بناء جبهةٍ واحدةٍ في أثناء التحضير للانتخابات. نقول "تنسيقا" و"جبهة"، وليس انصهاراً حديدياً، وقائدا "كاريزماتيكيا" واحدا، على طريقة أحزابنا العريقة. فإذا لم يفعلوا، كان من السهل اصطيادهم واحداً واحداً. وقد يتحوّلون بذلك إلى ظواهر صوتية برلمانية عرفنا طليعتها في سبعينيات القرن الماضي. خصوصاً أنّ المنظومة سوف تنجح في اصطياد النواب الذين يسمّون أنفسهم "مستقلين" أو "سياديين". فلا الصفة الأولى ولا الثانية تنطبق عليهم. إنما هم خليط من النواب الإكس "مستقبل" والإكس عوني والإكس حزبلهي، فضلاً عن العائلات التي لها باعٌ طويلٌ بالتعامل مع المنظومة والاستفادة من أعطياتها، والدخول في ألاعيبها وكواليسها.

المجتمع اللبناني، من المواطن إلى الزعيم، يكاد يقوم على خطر "نظام النجومية". وأداته التلفزيون، ومواقع التواصل، والإعلام اليوتيوبي

واختبار عدم الوقوع في الزبائنية التقليدية التي تؤمّن الاستمرارية في البرلمان. أي بمعنى آخر: إعادة بناء الدولة عن طريق "خدمات" أو "مبادرات" لا تمرّ إلّا من خلال أقنية رسمية، من مؤسسات أو كيانات رسمية، مثل البلديات والقضاء والبرلمان نفسه بتشريعاته الجديدة.

لا أعرف أيّها أعمق أو ذا أولوية .. من كلّ تلك الاختبارات. وربما ثمّة غيرها، أهم منها، على الطريق .. لكنّ المؤكّد أنّ أقرب هذه الاختبارات وأخطرها سوف يحصل داخل هذا البرلمان الجديد، بعد أيام. فالخطوة الأولى، الممارسة البرلمانية الأولى، التي سوف تكرّس "قانونية" هذا الانتخاب، ستكون في "معركة" انتخاب رئيس هذا البرلمان. والحال أننا، من وجهة نظر النواب التغييريين، ومعهم "القوات" وكلّ "المستقلين" و"السياديين"... نحن أمام أكثرية برلمانية عددية في التصويت، ترفض التجديد لنبيه برّي للمرة السابعة على التوالي، أي التمديد لرئاسته، التي صار عمرها اليوم 32 سنة. لكنّ هذه الأكثرية العددية لا تساوي شيئاً أمام "العُرْف" القاضي بأن يكون رئيس المجلس شيعياً. وبما أنّ الثنائي منع أي شيعي معارض له من خوض الانتخابات ضده، فإنّك لن تجد أي شيعيٍّ ضمن التغييريين، ولا غيرهم... لا شيعي واحداً في البرلمان يمكن أن يترشّح مقابل نبيه برّي. أما إذا حصل أن انتخبت هذه الأكثرية رئيسا غير نبيه برّي، فيخرج الثنائي الشيعي من هذا البرلمان، تكون "الميثاقية" العرفية، قد تضرّرت. وهي تعني خروج طائفة "رئيسية" من الحكم، تملك الذخيرة الحية، ولها تجربة طويلة عريضة بتعطيل مؤسّسات الدولة، وبشنّ حروب، أو مجرّد التهديد بها، لتجدّد شرعيتها المنتقصة (يعني شيئا أسوأ من "السيناريو العراقي" العتيد). أما إذا احتُرم العُرْف، بـالتصيّد بـ"الاتصالات" بالوعود، بجوائز الترضية، بالأرانب .. وصعد نبيه برّي للمرّة السابعة إلى البرلمان، فتكون نتائج الانتخابات قد أُلغيت، وتكرّست إحدى رذائل "الديمقراطية التوافقية". وقوامها: أنّ الأكثرية والأقلية مهمتان طبعاً، من أجل الشكل والرسميات. لكن بشرط ألّا تمسّ بشعرة القانون والعرف الطائفيين التي تقوم عليها المنظومة. وإلّا فستلوح في الأفق "فتنة" أو حرب، أو تعطيل وشلَل .. والمضيّ في الجحيم.