الواهمون العرب وإسرائيل

الواهمون العرب وإسرائيل

01 سبتمبر 2023
+ الخط -

لا تفتأ الأيام تُنبئنا أن عرباً كثيرين لا يزالون أسرى وَهْمٍ كبير مفادُه بأن إسرائيل هي مفتاح كثير من مشكلاتهم المعقّدة والعويصة، ومن ثمَّ تراهم يسارعون في الهرولة إليها، علّها ترمي إليهم بطوق نجاة لا يأتي أبداً. يتوهّم هؤلاء أن فلسطين عقبة مزعجة لا تعنيهم وتضرّ مصالحهم، ويحسبون أن في تجاوزها أو تهميشها ضماناً لتلك المصالح. يخدعون أنفسهم أن إسرائيل ستوفّر الأمن لهم وتحميهم من خصومهم المحليين والإقليميين، وبأن الولايات المتحدة ستفتح أذرعها لهم فقط مقابل علاقاتٍ ثنائيةٍ مع الدولة العبرية. وهم في ذلك، أي العرب، لا يتعلّمون من تجارب بعضهم بعضاً، فإسرائيل تأخذ ولا تعطي، ومن وقّعوا معها اتفاقات سلام وتطبيع إما بقوا في قاع ما كانوا فيه أو لم يجدوا عندها ما كانوا يطمعون به. ومع ذلك تستمر متوالية سفاهة التجربة وحتمية الخطأ والخطيئة.

يندرج ضمن السياق السابق ما عَرَّتْهُ الخارجية الإسرائيلية أن وزيرها، إيلي كوهين، التقى الأسبوع الماضي مع وزيرة الخارجية الليبية، المقالة حاليا، نجلاء المنقوش، في روما. دع جانباً زعم رئيس الحكومة الليبية، عبد الحميد الدبيبة، أنه لم يكن على علم بهذا اللقاء، فكل المعطيات تفيد العكس، بل وتؤكّد أنه من هيأ الأرضية لذلك في اللقاء الذي جمعه مع مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، وليام بيرنز، في طرابلس، في يناير/ كانون الثاني الماضي. ومن ثمَّ، لم تكن إقالة المنقوش إلا من باب تقديم كبش فداء سياسي. أيضاً، دعْ عنك الجدل في إسرائيل بشأن أسباب كشف كوهين عن اللقاء، فبغض النظر أكان تهوّراً من "سياسيٍّ هاوٍ"، كما تقول المعارضة، أم أنه يأتي في سياق التنافس بين وزراء الليكود على ادّعاء إنجازات سياسية، فالحقيقة أن الأمر انكشف وفضح، وجاء مصحوباً بتحذير من دوائر إسرائيلية متعدّدة، وغضب وتنديد أميركيين، من أن هذا قد يضرّ باتصالات سرية قائمة مع أطراف عربية أخرى قد تفقد ثقتها بمصداقية تل أبيب. بمعنى أن في ذلك تأكيداً أن الاتصالات والمباحثات الإسرائيلية لا تقتصر على ليبيا، فهناك عواصم عربية أخرى منخرطة في المهزلة نفسها.

لو كان هناك تفكير منطقي واستراتيجي عربي لاستنتج طالبو العزّة عند إسرائيل أن 45 سنة على توقيع اتفاقية كامب ديفيد بينها وبين مصر، و30 سنة على اتفاقية أوسلو بينها وبين منظمة التحرير الفلسطينية، و29 سنة على معاهدة وادي عربة بينها وبين الأردن، لم تعد على أيٍّ منهم بالنفع والخير. بل استلزم كل اتفاق، ولا يزال، عشرات الاتفاقيات اللاحقة لتفكيك الألغام المزروعة في الاتفاق الأصيل، من دون أن ننسى تآمر إسرائيل عليهم وانخراطها في زعزعة أمنهم واستقرارهم.

لم تجد أبو ظبي ولا المنامة المظلّة الحمائية التي منّوا أنفسهم بها عند تل أبيب للتصدّي لإيران

لا يزال كل من مصر والأردن قابعين في بؤس الفقر، اللهم إلا إذا كان الهدف تأمين مساعدات عسكرية أميركية، لا تغيّر ميزان القوى مع إسرائيل، ولا تقيل عثرة اقتصاديْهما المنهكيْن. لم تستعد مصر كامل شبه جزيرة سيناء بعد "كامب ديفيد"، بل تطلّب الأمر 11 عاماً لاستعادة مدينة طابا (1989) بعد تحكيم دولي. وحتى اليوم، تُفْرَضُ على مصر شروط مذلّة حول الانتشار العسكري في سيناء تخل بسيادتها عليها. ليس ذلك فحسب، لم تتوقّف إسرائيل يوماً عن التجسّس على مصر ومحاولات اختراقها، وثمَّة شبهاتٌ كثيرة تثار عن دورها في تحريض إثيوبيا ودعمها في بناء سد النهضة على مياه النيل، وتهديد حصة مصر منه. كذلك الأردن، لم يستعد كل أرضه بعد، رغم الإعلان الرسمي، عام 2019، عن استعادة السيادة الأردنية كاملة على أراضي الباقورة والغمّر، إلا أنه يكفي أن يذهب الأردني لزيارة تلك المنطقة شمال المملكة ليعلم أنه ممنوع من دخولها. أما حصة الأردن من مياهه التي تسيطر عليها إسرائيل وتسرقها، فهي كانت، ولا تزال، أداة ابتزازٍ تلجأ إليها تل أبيب متى وأنَّى شاءت.

فلسطينياً، الحال أكثر قتامة ومهانة، فلا استقلال تحقّق، ولا دولة هشّة وشكلية معدومة السيادة قامت على أقل من 22% من فلسطين التاريخية، ولا حتى تمكّنت السلطة الفلسطينية من الحفاظ على ما تبقى من شعث الأرض الممزّقة في الضفة الغربية. أما القدس التي توهّم الأوسلويون الفلسطينيون أن يكون الجزء الشرقي منها عاصمة لدولتهم العتيدة، فقد أصبحت بقرار أميركي عاصمة أبدية وموحّدة لإسرائيل. ثالثة الأثافي، تتمثل في أن السلطة الفلسطينية تحوّلت وكيلاً أمنياً وبلدياً لدى إسرائيل، وعندما أدرك ياسر عرفات حجم الكارثة التي تورّط فيها، وحاول الانقلاب عليها، كان مصيره الحصار ثمَّ القتل، عام 2004، بعد أن تخلّى عنه كثيرون من الأوسلويين الفلسطينيين، إن لم يكونوا تآمروا عليه.

ظنّ الدبيبة أن اتفاقاً مع إسرائيل سيُترجم إلى دعم أميركي في نزاع الشرعية بين حكومته في طرابلس ومجلس النواب الخاضع لنفوذ حفتر

لكن، كثيرون من عربنا لا يتعلّمون. قفزت الإمارات والبحرين إلى قطار التطبيع مع إسرائيل، عام 2020، ولحق بهما المغرب أواخر العام ذاته، قبل أن ينضم السودان إلى القافلة مطلع عام 2021. لم تجد أبو ظبي ولا المنامة المظلّة الحمائية التي منّوا أنفسهم بها عند تل أبيب للتصدّي لإيران، فإسرائيل لا تضحّي بجنودها ولا إمكاناتها العسكرية إلا في سبيل أمنها ومصالحها. حتى الطائرات الأميركية المقاتلة، أف - 35، التي وعدت بها الإمارات لم تحصل عليها. المغرب الذي حصل، مقابل التطبيع مع إسرائيل، على دعم أميركي لمقترحه حكما ذاتيا في الصحراء المغربية تحت سيادته، لم يجد الإسناد الكافي في مواجهة الضغوط الدولية والإقليمية عليه لإجراء استفتاء شعبي في الصحراء يقرّر مصيرها. أما السودان، فيكفي أن تنظر إلى واقعه المرير اليوم، والتمزيق الذي يتعرّض له في الصراع الدائر بين الجيش وقوات الدعم السريع، لتعرف أن إسرائيل ليست حلاً ولا ضماناً لشيء، اللهم إلا الأذى والخراب والتآمر. ومع ذلك، يبدو أن كل ما سبق لم يكن له أثر في حسابات الدبيبة، الذي ظنَّ أن اتفاقاً مع إسرائيل سيُترجم إلى دعم أميركي في نزاع الشرعية بين حكومته المؤقتة في طرابلس ومجلس النواب الخاضع لنفوذ الجنرال خليفة حفتر، في بنغازي، في الشرق الليبي.

للأسف، لن يقف الأمر عند حدود ليبيا، فعربٌ آخرون ماضون بتهوّر على المنحدر الخطير نفسه، وما علينا سوى انتظار الإعلان عن اتفاقات تطبيع جديدة. يفعلون ذلك رغماً عن شعوبهم ودوساً على مشاعرها وقناعاتها. المفارقة هنا أن الخارجية الفلسطينية التي رحّبت بزيارة الدبيبة سفارتها في طرابلس وتصريحه من داخلها عن رفض بلاده التطبيع مع إسرائيل وتجريم أي اتصال يجمع مسؤولين ليبيين مع ممثلي دولة الاحتلال، تنتمي هي نفسها إلى سلطةٍ تمارس التطبيع مع إسرائيل، بل هي متورّطة في ما تسمّيه "تنسيقاً أمنياً" معها. أي مهزلة بعد ذلك!؟