الملل جميل أحياناً

الملل جميل أحياناً

04 نوفمبر 2021

(ضياء العزاوي)

+ الخط -

ألا تشعرين بالملل من العمل في الكتابة؟ سألتني صديقة تعرفني جيداً منذ ثلاثين عاماً، وتعرف أن الكتابة وعوالمها هي مجال عملي ومحتوى هواياتي، في كل أنواعها وصورها تقريباً. وتعرف أنني أعمل في الصحافة منذ كنت طالبةً على مقاعد الدراسة الجامعية، وبالتأكيد تعرف تماماً مدى شغفي الكبير بهذا العمل الذي لم أزاول غيره، وهذه الهواية التي لا تعادل أهميتها لدي هواية أخرى، على كثرة هواياتي وتنوعها وتقلّباتي الزمنية بينها، مرحلة بعد مرحلة، فكل الهوايات متحوّلة، لكن الكتابة ثابتة.

كان سؤالها الذي بدا لي معتاداً، في ختام حديثٍ طويل بيني وبينها عمّا فعلته بنا جائحة كورونا، وأثرها في أعمالنا وحياتنا كلها. كنا قد اتفقنا على أن الأثر الذي تركته هذه الجائحة كبير جداً في الأعمال المكتبية، وكما يتعلق بها، ومنها الصحافة الثقافية التي كانت دائماً نصيبي الصحافي. ومنها أيضاً وظيفتها في التدريس الأكاديمي في إحدى الجامعات.

لا. لا أشعر بالملل، لأنني لا أحب عملي وحسب، بل أعتبره شغفي الأكبر في هذه الحياة، وأنت، يا صديقتي ورفيقة رحلتي، تعرفين ذلك جيداً.

لا أدري إن كانت صديقتي قد اقتنعت بإجابتي السريعة والتقليدية بالنسبة إليها أو لا، خصوصاً أنها سمعتها مني كثيراً وفي مفاصل متعدّدة من رحلتنا المشتركة. وفي كل مرّة تسمعها مني كانت تعلّق بما يشبه الموافقة كزاد للاستمرار في رحلتنا المشتركة، لكنها هذه المرّة بدت غير مقتنعة بها كثيراً، ربما لأن الإجابة أتت في ختام حديثنا الطويل عن المصاعب والمشكلات التي مرّت بنا أخيراً.

غيّرت صديقتي مجرى الحديث بعد ذلك بسرعة، من دون أن تسترسل كما كانت تفعل في المرّات السابقة في الحديث عن بداياتها وبداياتي في أعمالنا وهواياتنا. من الواضح أنها كانت تعيش مللها الخاص أيضاً، وإن كانت لا تريد الاعتراف به أمامي، ما دمت متجلدة وثابتة على الإجابة القديمة. لكن سؤال الملل بقي، هذه المرّة تحديداً، عالقاً في ذهني، حتى بعد انتهاء الجلسة وانصراف كلّ منا إلى شأنها الخاص!

عدت إلى إجابتي عن سؤالها لاحقاً، لا لأتأكد منها وحسب، بل أيضاً لأنني شعرت فعلاً بتقليديتها الخارجة عن سياق ما نحن فيه من تغيرات كبرى ألمّت بنا جميعاً تحت ظلال الجائحة الكونية، وتغيّرات أخرى ألمّت بي شخصياً، تحت وطأة العمر المنصرم والخسارات البشرية وغير البشرية التي توالت عليّ في السنوات الأخيرة.

في إطار مراجعة الإجابة عن سؤال الملل من العمل ومن الكتابة وما بينهما من ممارسات تشبههما وتتعلق بهما، اكتشفت أنني كنت دائماً أحتال على شعوري بذلك الملل انتصاراً لعملي ولهوايتي، ربما لأنني أنظر إلى الملل تلك النظرة السلبية الشائعة، من دون أن أفسح لنفسي، ولو فجوة، لاكتشاف إمكانات أخرى له قد تكون إيجابية.

الملل، على سبيل المثال، هو دافعنا دائماً إلى التجدّد في الحياة والبحث عن أساليب وطرائق مختلفة لعيشها وفق ما نحبّ وما نرضى، وهو نفسه وقودنا للاستمرار في الدهشة ومحاولة الاكتشاف. ولو تعمّقنا في معرفة أصل الاختراعات والاكتشافات الفردية، لوجدنا أن للملل دوراً كبيراً في الوصول إليها.

وفي البحث عن معنى الملل، نكتشف أن لا معنى محدّداً يمكن أن يؤدّي الغرض، وإن كان الشعور المتولد منه يكاد يكون مشتركاً لدينا جميعنا، نحن البشر. إنه الحالة التي تشعرنا بأننا على وشك الموت إن استسلمنا له، وأن حياة أخرى جديدة بانتظارنا إن عملنا على ركوب أول رحلةٍ متاحةٍ لمغادرته. الملل جميل إذن بهذا المعنى، وإن لم نعترف بذلك دائماً!

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.