المغرب - إسبانيا: الأندلس وجيواستراتيجية القنافذ

المغرب - إسبانيا: الأندلس وجيواستراتيجية القنافذ

02 فبراير 2021
+ الخط -

كان لإسبانيا، دوماً، إغراء خاص في الخيال الجماعي للمغاربة، الشعبي منه والنخبوي. فهي ليست، فقط، فردوس الماضي المفقود، الذي دخل القصائد بعد أن خرج من خريطة الأمة، وبكته كمنجات العرب الخارجين من الأندلس، في حنينيات محمود درويش، بل هي أيضاً فردوس المستقبل، بالنسبة إلى الحالمين بالذهاب إلى مجتمعٍ منفتح، وتنجح فيه الانتقالات الديمقراطية، بقوة الملكية وإرادة الإصلاحيين. وإسبانيا تمرينٌ جيدٌ لفهم جيواستراتيجية، متشعبة وبسيطة في الوقت ذاته، حيث الجوار، والصحراء والبحر، والتاريخ والموشحات والموريسكيون... واستعصاء السياسة.
ولإسبانيا وضع خاص في القضية الترابية للمغرب، فهي الدولة التي كانت تحتل المنطقة، وهي التي تملك وثائق كثيرة متعلقة بها، وهي أيضاً بلد عضو في لجنة "أصدقاء الصحراء"، وعادة ما يكون لموقفها وقع خاص في الأوساط المغربية، والتي تعادي المغرب على حد سواء. ولا يخفى على المتتبعين، ومواطني الدولتين، المغرب وإسبانيا، بالتحديد، أن الفترة الحالية ليست أزهى فترة في العلاقات، بسبب اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بسيادة المغرب على الصحراء.
القرائن، وليس الأدلة، هي التي تقول إن الإسبانيين ليسوا راضين عن أن تكون قضية الأقاليم الجنوبية المغربية، التي كانت قد استعمرتها عقوداً طويلة قبل تحريرها من المغرب، قد دخلت منعطفاً حاسماً مع القوة الكبرى في العالم، ربما بدون علمهم، ما أحدث سوء فهم، شعر الإسبان معه بأنهم في موقف ضعف.

بلدان جاران، قريبان من بعضهما، يشعران بالحاجة إلى دفء بعضهما، ثم عند اقترابهما من بعضهما تخرج أشواكهما، فيخز بعضهما بعضاً.

الغيوم التي تراكمت في السماء ما بين ضفتي المتوسط ليست دائمة، لكنها تعود بين الفترة والأخرى، في قضايا استراتيجية، وصلت أحياناً إلى المواجهات، كما حدث في قضية جزيرة ليلى التي كادت الأمور فيها تصل إلى المواجهات العسكرية أيام اليميني خورخي أزنار. الوضع، اليوم، متباين. ومع ذلك، فعندما أراد المغرب أن يطهّر معبر الكركرات (النقطة الحدودية بين المغرب وموريتانيا) أُشعِرَ الإسبانيون، ولم يكن سرّاً، في أوساط الإعلام والسياسة المغربيين، أن الرباط أخطرت مدريد بذلك، كما فعلت مع موريتانيا وأعضاء مجلس الأمن.
وكانت علاقة البلدين أمام امتحان جيوعسكري سياسي، تحرّكت البوارج فيه والفيالق العسكرية في شرق المتوسط، ويتعلق بالولاية البحرية، ونجحا فيه، وصار نقطة قوة إضافية بفضل ذلك التفاهم العميق الذي تلته زيارة وزيرة الخارجية الإسبانية، في أول رحلةٍ لها بعد تنصيبها، ومعنى ذلك أن الحرب التي خاضتها قوى اليمين، ورئاسة جزر الكنارياس، لم يكن لها صدى في الأفق السياسي الرسمي لإسبانيا، فقد كان حزب اليمين الشعبي، وحزب فوكس المتطرّف على يمينه، يسعى إلى أن يجبر إسبانيا على العودة إلى أجواء الصراع بين الجارين المتوسطيين، بل العودة إلى أبعد من ذلك، إلى فترة الانتداب الاستعماري على جزء من المنطقة، غير أن الوزيرة نبهت، بالأساس، إلى أن العلاقات لا تخضع للمزاج السياسي أو بعد السياسي، إنها قضية دولة، وقضية استراتيجية لا تخضع للمزاج السياسي. والواقع أن الموقف الإسباني كان تتويجاً لتطور إيجابي إزاء قضية الوحدة الترابية للمغرب، فإسبانيا التي هددت، من على منبر الأمم المتحدة في سنة 1975، بالتدخل العسكري إذا نظم المغرب المسيرة الخضراء، ووطّدت علاقتها مع الجزائر ضد المغرب طوال السنوات التي أعقبت ذلك، أدّت التحولات الكبرى داخلها وداخل المحيط المتوسطي إلى ما يرضي المغاربة. بيد أنهم لمسوا، بغير قليل من الاستفهام، تجهم مدريد من خطوة الولايات المتحدة. ولم يعلن المغرب أي موقفٍ متسرعٍ في الجواب، وناب عنه صوت العقل في الوسط الإسباني الذي يبدو أنه ينجح في تفكيك القنبلة. وقد توفق كثيراً جزءٌ منه في تحليل المعطيات الجديدة، ومن ذلك ما كُتب عن "جيواستراتيجية القنافذ"، المستعار من أرتور شوبنهاور، ومعناه أن بلدين جارين، قريبين من بعضهما، يشعران بالحاجة إلى دفء بعضهما، ثم عند اقترابهما من بعضهما تخرج أشواكهما، فيخز بعضهما بعضاً.

الإسبانيون مقتنعون بأن لندن لن تتأخر كثيراً في فتح قنصلية لها في الصحراء، لأنها غادرت الاتحاد الأوروبي

من هذا المنطلق، عاب العقل الإسباني إغفاله تطورات مهمة في المغرب. هناك أربع نقط تحتل الصدارة في الدوائر الإعلامية والسياسية في الجارة الشمالية، هي الصحراء، سبتة ومليلية والهجرة والقاصرون الذين يصلون إليها، تحتكر تفكير عديدين من كتّاب الرأي وصنّاع العمق الشعبي للتصورات السياسية في البلاد المتوسطية من أوروبا، غير أن العقل الرزين يرى أن هذه الموضوعات هامة بالنسبة إلى جيل جديد من المحللين، لكنها "أبعد ما تكون عن تأسيس رؤية شاملة عن العلاقات مع جارنا"، على حد تعبير خبير الدبلوماسية والحكامة، باوو سولانيا. والمغرب، بالنسبة إليهم، هو أيضاً سوق بالنسبة إلى المقاولات والاستثمارات، حيث تحل إسبانيا في المرتبة الثانية بعد فرنسا. وهي شريك لا يمكن القفز عليه في الأمن الإسباني والأوروبي، في محاربة الإرهاب والهجرة وغيرهما، إضافة إلى أن الجالية المغربية من أكبر الجاليات فيها.
ويدعو هؤلاء إلى الانتباه إلى ما حققه المغرب من اختراق اقتصادي ودبلوماسي في أفريقيا (القنصليات، الاستثمارات الكبرى) لفائدة دول أخرى لا تنظر بقلق أو حيرة إلى اعتراف واشنطن بمغربية الصحراء، ومن بينها المملكة المتحدة، الجار الصعب الآخر في جغرافية إسبانيا بفعل جبل طارق. والإسبانيون مقتنعون بأن لندن لن تتأخر كثيراً في فتح قنصلية لها في الصحراء، لأنها غادرت الاتحاد الأوروبي، (لبريكسيت قوانينه)، و"تعترف بالرؤية الاقتصادية والسياسة الأفريقية لمحمد السادس"، التي تنوي الاستفادة منها.

نُشرَت وثيقة أعدتها وزارة الخارجية الإسبانية، يتمركز المغرب فيها ضمن أولويات العمل الخارجي لإسبانيا ما بين 2021 و2024

حالياً، بدأت الأمور تأخذ منحىً آخر، كما يبدو من تصريحات الشخصيات الأساسية في تركيبة دولتها، من وزيرة الخارجية إلى الملك فيليب، مروراً بوزير الداخلية. وقد التقط العاهل الإسباني، الذي ورث، ولا شك، عن والده، خوان كارلوس، مرونة الوساطة بين البلدين كلما توترت الأجواء، ضرورة عودة العلاقات التي تجمع بين إسبانيا والمغرب إلى حرارتها السابقة باعتبارهما "البلدين اللذين يتقاسمان مصالح وتحديات مشتركة"، كما قال في كلمة ألقاها خلال حفل الاستقبال السنوي للسفراء المعتمدين لدى إسبانيا. وأكدت وزيرة الشؤون الخارجية والاتحاد الأوروبي والتعاون الإسبانية، أرانشا غونزاليس لايا، "قوة العلاقات بين إسبانيا والمغرب ونضجها، ما يسمح للبلدين بتجنّب أي سوء فهم محتمل". وفي عبارتها إقرار بوجود سوء فهم حاصل، لكنه لن يستعصي على "علاقة ناضجة متينة وعميقة ووثيقة".
ونُشرَت وثيقة أعدتها وزارة الخارجية الإسبانية، يتمركز المغرب فيها ضمن أولويات العمل الخارجي لإسبانيا ما بين 2021 و2024. وشدّد وزير الداخلية، فرناندو غراندي مارلاسكا، الذي حافظ على قاموسه في تثمين العلاقات، على الرغم من الارتباك العام بسبب تصريحات رئيس الحكومة المغربي، سعد الدين العثماني، بشأن سبتة ومليلية، شدد على أن "علاقات استراتيجية وهامة للغاية بالنسبة إلى كلا الجانبين".
يفسّر الفيلسوف الألماني، أرتور شوبنهاور، بعضاً من العلاقات المغربية الإسبانية، قد يكون فيها وخز متبادل عند الاقتراب الوثيق، غير أن البرودة تتربص بهما إن هما ابتعدا عن بعضهما، والبرودة ليست فقط بسبب البحرين بينهما، فقد تأتي من شمس الصحراء كذلك!

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.