المشترك بين وائل حلاق واليسار اليهودي

المشترك بين وائل حلاق واليسار اليهودي

17 نوفمبر 2020
+ الخط -

تتضمّن نتائج الإبادة "الإيجابية" (في الفلسفة المشرّعة للكولونيالية وسياسات الاستعمار) للتخلص من السكان إلغاء حقهم في الأملاك، واختطاف الأطفال وتغيير الدين، وإعادة التشكيل الاجتماعي، في مدارس الإرساليات، أو المدارس الداخلية، وسلسلة كبيرة من عمليات الدمج الحيوية الثقافية (..). باتريك وولف
عمل رافائيل ليِمكن (rafheal Lemkin) بجهد كبير ومضنٍ ومتتابع، لتحرير المصطلح الذي أضحى وثيقة إدانة دامغة، حيث تثبّت على أي شخصية سياسية أو علمية أو اجتماعية، ساهمت في المجازر الأوروبية النازية للضحايا اليهود. وحصل المحامي البولندي اليهودي، على دعمٍ مكّنه من اللقاء والحوار والمفاوضات، مع الدول الرئيسية في الأمم المتحدة، لتبني مصطلح الإبادة الجماعية.
سنُلاحظ قبل الاستطراد كيف أن أوروبا الحديثة نجحت في تحويل المأساة اليهودية التي شرحنا، فيما مضى، الجامع بين فكرتها الليبرالية والاستثناء النازي، بحيث تحولت ثقافة وآلة الجريمة والفلسفة المنتجة لها، والجغرافيا الاجتماعية الجذرية لدولها ومجتمعاتها، إلى راعية للسلام وداعمة لضحايا الهولوكوست، وتم تحويل ضريبة التكفير إلى مجتمعات الجنوب والشرق، من خلال إسناد آلة الدولة الصهيونية الحديثة، لصالح خطط المركز الغربي.
يضع وائل حلاق هذا السياق في تموضعٍ مهم للغاية، وهو ربط هذا التحوير المضلل، في سياق فكرة "التقدّم"، ذات التقدم الحداثي المادي، والذي مارس الغرب فيه إبادة في ثلاثة قرون، هو ذاته الذي مارس إبادة الهولوكوست. وهنا تبرز لقطة رائعة للغاية من باتريك وولف، حين أشار إلى أن الإبادة البنيوية في عقيدة التقدّم تروج حتى بين الشعوب الضحايا، (بأنها عملية حتمية على طريق التقدّم)، إذ إن هذه الأجيال في الأصل لا تعرف أي معادلة أخرى للتقدّم، غير هذا الموروث.

سؤال المسؤولية عن علاقة الحداثة بالإبادة، ومعيار العدالة في مستقبل الإنسان ما بعد الحداثة، امتد تطارحه إلى مفكرين يهود، تداخلت حياتهم بين اليسار والموقف من الدولة الإسرائيلية

وتحت حماية شروط الحداثة المادية وترويجها الضخم، لا يوجد أي قدرة وعي استقلالية، على الرغم من الدراسات والكتب المعاصرة في الفلسفة الأخلاقية، يطرح لتلك الشعوب وشبابها، كيف كان ممكناً للعالم الجنوبي أن يتطوّر، في العلوم وإدارة الدولة حقوقيا، وتشاركياً وصناعة التكنولوجيا، بنموذج آخر يتقدم به الإنسان تحت مبدأ القيم والعدالة للضمير. تستهلك هذه المقارنة كثيراً من جهود (ولغة) وائل حلاق وإدوارد سعيد، على السواء، مع انفراد حلاق بالعمق المركزي، لجذور التشكلات الخطابية، وهي التشكلات التي يشير إليها وولف، من حيث هيمنة خطابها على مصدر المعلومة عن التقدّم المعاصر وشروطه.
سؤال المسؤولية عن علاقة الحداثة بالإبادة، ومعيار العدالة في مستقبل الإنسان ما بعد الحداثة، امتد تطارحه لمفكرين يهود، تداخلت حياتهم بين اليسار والموقف من الدولة الإسرائيلية. ولعل عالم الاجتماع اليهودي البولندي الأصل، الذي يستدل به حلاق هنا، سيغموند باومان، وربطه الهولوكوست بالحداثة، من هذه الشواهد التي لا نجد لها رواجاً ثقافياً في البناء المعلوماتي للأجيال الحديثة، في الغرب، ولا في امتداده الأكاديمي في الشرق. وتشير تجربة عبد الوهاب المسيري إلى اهتمامه وبنائه على نظرية باومان، لكن حلاق يذكّر بضرورة تجاوز فكرة باومان وحنا آرندت، من مقاربة الحداثة مع الهولوكوست، إلى المستويات الأعمق التي تدلل على أن الإبادة البنيوية للغرب، بحسب رأيه، الأساس التاريخي للمشروع الحداثي نفسه، وهي مركزية في نقده إدوارد سعيد.

الإبادة الجزئية، حيث تمارس دورات العنف في مواسم، أو في حروب وظيفية لمصالح الغرب، لا تتشارك في المرجعية القانونية للإبادة الجماعية

يشير حلاق أيضاً إلى نموذج الإبادة البنيوية للعثمانيين، والتي عملت عليها أوروبا، وكيف نجحت "عقيدة التقدّم" الحداثية، ليس في القضاء على الدولة مؤسسياً، واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وفكرياً وسياسياً وحسب، ولكن خلقت عنها ذاكرة مشوهة. وهنا يستدرك حلاق الإرث السياسي السيئ للعثمانيين، وأن الميزة المقصودة لم تكن أَشكَال العثمانيين السياسية، وإنما ما خلقت فيهم روح الشرق الإسلامي، من ممارسات اجتماعية ونظام تعليمي (مختلف عن الحداثة قابل للتطوير)، وطرائق أخلاقية وصوفية منسجمة مع العالم الطبيعي والقيم الكونية. وهذه مساحة تحرير مهمة، بالفعل تحتاج لها الدراسات الشرقية، غير أن الضجيج المقابل لتعظيم العثمانيين، والتغافل عن كوارثهم، هو أيضاً لن يساعد في فرز القيم، من تأثير الاستبداد السياسي على هذه القيم في الحياة الاجتماعية لمناطقهم. ويكفي هنا أن نستدل بطريقة الأسر والعبودية التي سادت في عهودهم، وكيف يُدان وينقض سلوكهم وفقاً لمعايير القيم ذاتها التي تتبنّاها المعرفة الإسلامية، وهذا مسار واحد، وهناك مسارات أخرى. غير أن المركز الفكري في تحريرنا هذا المسار هو أن العالم قد أُخضع لتفسير بل ونموذج واحد للإبادة. ومع أن هناك شعوباً مظلومة استفادت من تحرير هذا المصطلح القانوني لرفائيل ليمكن، إلا أن حصر الوصف فيه قد خدم من جديد عقيدة التقدم الإبادية، والتي لا تزال تمارس. وعليه، الإبادة الجزئية، حيث تمارس دورات العنف في مواسم، وتقف في مواسم أخرى، داخل أوروبا وأميركا مع الأقليات المتعددة، أو في حروب وظيفية لمصالح الغرب، لا تتشارك في المرجعية القانونية للإبادة الجماعية، إلا بالقدر الذي يوظفه الهدف الوصفي.

حماية الطفل أو العائلة أو المجتمع السكاني، من أي عنف أو سلوك لا أخلاقي، لا يقوم بانتزاع الأطفال من حضن أهليهم

العناصر التي تحدث عنها وولف، وخصوصا تحت هذا العنوان المهم (وسلسلة كبيرة من عمليات الدمج الحيوية الثقافية) تجري تحتها منظومات تعسّف عنيفة تستخدم القانون، باسم الحداثة اليوم، في كل الدول الغربية، وهي تعتمد على أساس تشريعي مضمر، أن ثقافتها على اللاجئين المنضمين لها هي ثقافة إبادة (إيجابية)، وأن اختطاف الأطفال تعليمياً وثقافياً واجتماعيا يوضع تحت هذا التشريع القانوني، فيما هو من صور الإبادة.
حماية الطفل أو العائلة أو المجتمع السكاني، من أي عنف أو سلوك لا أخلاقي، لا يقوم بانتزاع الأطفال من حضن أهليهم، ولا تنظيم إعادة تشكلهم الثقافي الاجتماعي، وإنما بربط الأجيال بمنظومة القيم الموحدة. أما ما يجري اليوم، فهو صور من إعادة خلق المجتمعات "الدونية"، في منظور الحداثة، لتكون جزءًا من آلة الحرث المادية لدول الحداثة الغربية، وهذا بالضبط ما يجري للأقليات المسلمة في الغرب.