المسلمون وسطوة النموذج المهيمن

المسلمون وسطوة النموذج المهيمن

01 يونيو 2022

(بيار بوشارل)

+ الخط -

كثيرا ما يعزو الكتاب والمثقفون العرب إخفاقات العرب والمسلمين، وما يعتبرونه عجزا عن دخول العصر، إلى رفضهم أو تمنعهم عن قبول القيم الجوهرية للحداثة، من عقلانية ونزعة إنسانية وعلمنة وما شابه ذلك، فالعربي والمسلم، وفق هذه الرؤية، بقي خارج الفعل التاريخي، لأنه، بكل بساطة، لم يستجب بالشكل المطلوب للوصفة السحرية للحداثة، خلافا لشعوب وأمم أخرى نجحت في هذا الاختبار العظيم.

ومن دون دخول في جدل موسّع يتعلق بمحدودية التفسيرات الثقافوية، وما يطبعها من نزوعات مركزية وعنصرية خفية أحيانا كثيرة، أكتفي بالقول هنا إن حالة التعثر العربي والإسلامي تجد تفسيرها في معطيات الاجتماع ونظام العلاقات الدولية أكثر مما تجدها في عالم الثقافة والدين ومنظومة القيم، أي في توازنات القوة وحركة الجيوش وحقلي السياسة والاقتصاد أكثر من أي اعتبارات أخرى. لقد أخفق العالم الإسلامي في دخول مغامرة الحداثة والمساهمة فيها، ليس لأنه لم يفهم مقولاتها ولم يتشبع بخطابها على نحو ما يروج بعض الكتاب العرب، بل لأنه افتقد الحد الأدنى من توازنه السياسي، وقدرته على الفعل، بسبب ما حل في ساحته العامة من توسعات استعمارية، وشرذمة سياسية شلت قواه، فقد وجد العالم الإسلامي نفسه يتحرّك ضمن معادلة دولية قاسية وميزان قوى أكبر منه، بما يفوق نطاق الفعل الإرادي الفردي والجمعي. علما أن أداء الدول الإسلامية نفسها يتفاوت في ما بينها. الأتراك والإيرانيون والإندونيسيون يبدو منجزهم العام أفضل من غيرهم من الدول الإسلامية، لأنهم يتوفرون، بكل بساطة، على كيانات سياسية أكثر قوة ومناعة من نظرائهم العرب. مقابل ذلك، تبدو الدولة العربية هشّة وضعيفة، ولم تقدر على تجاوز إعاقتها الذاتية من خلال مشروع تكاملي في المجال العربي، أو حتى في الإطار الإقليمي الأضيق (المغرب العربي، الخليج، مصر والمشرق العربي)، بحكم اشتداد حالة الانقسام والصراعات البينية العربية.

لقد كان من الآثار المباشرة للثورة الصناعية التي دشّنتها القوى الأوروبية الصاعدة، ومن ذلك الانتقال من الاقتصاد القائم على الآلة اليدوية إلى الآلة البخارية والميكانيكية في ما بعد، امتلاك أدوات القوة والتحكّم في السلطة، بما منح هذه القوى سبقا هائلا وتفوقًا واسعا على بقية دول العالم وشعوبه، وقد نجم عن ذلك تشكّل نظام دولي شديد المركزية والعنف، تحت سيطرة القوى الأوروبية المتسلحة بالصناعة العسكرية وتقنيات التواصل الحديثة، من التلغراف إلى الهاتف إلى آلة الطباعة وغيرها، قبل أن تمتدّ هذه الحداثة أفقيا في ما بعد، باتجاه المجال الأطلسي الأميركي الأقدر عسكريا وعلميا والأثقل ديمغرافيا.

فقدت الحداثة الغربية طابعها المركزي والسحري الملغز، وأصبحت سجلا مفتوحا ومبسوطا أمام أبصار مختلف شعوب العالم ونخبه وسمعهم

اتسمت الحداثة، في طورها الأول، بطابعها الاحتكاري والمركزي إلى حد بعيد. ولذلك بقيت تقتصر على بعض الدول الأوروبية قبل أن تنتقل إلى المجال الأطلسي الأميركي، هذا إذا استثنينا اليابان الآسيوية التي تمكّنت من تسجيل اختراقات مهمة، عبر التعلم السريع من الأوروبيين، وروسيا القيصرية التي نجحت، وإنْ بدرجة أقل، في اكتساب قدرٍ من هذه الحداثة العسكرية والتقنية، في سياق رهانها على اللحاق السريع بكبريات العواصم الأوروبية، عبر الاستخدام الفوقي والموجه للدولة المركزية وفي إطار تسلطي.

بيد أنه بعد الحرب العالمية الثانية بدأت هذه المركزية تتراجع تدريجيا، ليس لضعفٍ حل بالقوى الأوروبية - الأطلسية، أو لأن الغرب فقد ديناميكيته وقدرته على الابتكار، بل لأن بقية العالم، أو ما سماه فريد زكريا ما سوى الغرب، قد شهد صعود قوى فاعلة وأقطاب نشيطة في طريقها إلى دخول عوالم الحداثة والنجاح في السيطرة على وجهتها بدرجاتٍ متفاوتة، من الصين والهند وكوريا الجنوبية وماليزيا إلى البرازيل وتركيا وايران وغيرها، بما فتح الأبواب أمام تعدّد النماذج الحداثية. استفادت هذه الأمم بأقدار مهمة من انسياب المعرفة العلمية وتقنيات التسلح، عن طريق التعلم والمحاكاة والتطوير والتعديل أحيانا، وحتى عن طريق الاختراق والسرقة العلمية والقرصنة المعلوماتية أحيانا أخرى. هكذا فقدت الحداثة الغربية طابعها المركزي والسحري الملغز، وأصبحت سجلا مفتوحا ومبسوطا أمام أبصار مختلف شعوب العالم ونخبه وسمعهم. فالعلوم والتقنيات التي كان للغرب قصب السبق فيها غدت موضعا للمنافسة من قوى صاعدة، كالصين وروسيا والهند، وأخرى ناشئة مثل كوريا الجنوبية وإندونيسيا وماليزيا وتركيا وإيران وغيرها.

ويجب أن نضيف هنا أننا إزاء تحول هائل في مسار الحداثة من خلال ارتحال قدر كبير من مصادر القوة والثروة والابتكار العلمي من المراكز الغربية الكبرى نحو عوالم الشرق الأقصى، فلأول مرّة، منذ ما لا يقل عن ثلاثة قرون، تصبح مراكز الشرق الكبرى جاذبة ومنتجة للحداثة، بصورة منافسة جدّيا للحداثات الغربية، بعدما كانت الأنظار ترنو إلى لندن وباريس وبرلين وواشنطن دون غيرها.

كانت الحداثة في مراحلها الأولى بمثابة أسرار مبهمة وعوالم ملغزة أمام بقية شعوب العالم المسحورة والمذعورة منها، وهو ما جرى تلخيصه في تلك المقولة التي ظلت تتردّد باستمرار في بيانات الإصلاحيين المسلمين، وحتى وقت متأخر: اكتشاف أسرار التقدّم الأوروباوي (الحداثة قرينة الأسرار الملغزة).

حقيقة بدأت تفرض نفسها على الجميع، محبّي الغرب وكارهيه، المقبلين عليه والرافضين له، أنّ العالم لم يعد منحصراً في الغرب الأوروبي والأطلسي

لم تعد الحداثة اليوم تلك الظاهرة السحرية والعجائبية التي نتقصّى أخبارها عبر المرويات، ونتعقّب أسرارها من بطون الكتب والزيارات النادرة لبعض العواصم الأوروبية، كما كان حال أجدادنا منذ أواخر القرن الثامن عشر، بل أضحت جزءا مكينا من حياتنا اليومية، وبعدا ملازما لمختلف مناحي تفكيرنا وأحوال اجتماعنا، فقد انسابت هذه الحداثة في شرايين المجتمعات، وانتشرت في مختلف مناحي المعمورة في مشارق الأرض ومغاربها. كان ذلك، في البداية، بقوة الجيوش والصناعة، ثم بحركة الانفتاح الثقافي والترجمة وتقنيات التواصل وغيرها، إلى الحد الذي يستحيل معه اليوم التفكير في حاضرنا أو العودة إلى ماضينا القريب أو البعيد، بمعزلٍ عن تأثير الحداثة بشكل أو بآخر.

لقد عاش أجدادنا ما يمكن تسميته هنا مأزق الوعي التاريخي، إن لم أقل تمزّق الوعي التاريخي، الناتج عن التحدّي الهائل والمحزن أحيانا الذي فرضته الحداثة الغربية، فكانوا يتقلبون بين التوجس خيفة منها والانبهار بها والإقبال عليها، كلُّ بحسب خلفيته الفكرية وموقعه الاجتماعي السياسي وخبرته الذاتية. الحداثة التي اكتشفها الفلاح في قرى الأناضول وصعيد مصر وأرياف الأطلس والجزائر، مثلا، ليست بالضرورة هي نفسها التي اكتشفها العالم الأزهري أو الزيتوني والقروي (نسبة لجامعة القرويين). وزاوية نظر العسكري والبيروقراطي العثماني ليست متطابقة، بالضرورة، مع زاوية نظر الإصلاحي الإسلامي أو الليبرالي المسلم.

على أن القول إن الحداثة متعدّدة ومتنوّعة ليس مجرّد ادّعاء فلسفي أو رغبة شخصية لفيلسوف أو مفكر مسلم أو غير مسلم لفتح مجال الإمكان النظري، بل هي كذلك واقعا، فنحن نعيش حداثاتٍ شتى، ما الحداثة الليبرالية سوى واحدة منها. طبعا، هذا لا ينفي أن بعض نماذج هذه الحداثة المعروضة علينا اليوم، وعلى الرغم من نجاحها العلمي والتقني، إلا أنها ذات ملامح سلطوية مخيفة، فنجد أنفسنا بين حداثة ليبيرالية استعمرتنا ونكّلت بنا وأخرى سلطوية تحمل في أحشائها نزعة تحكّمية أشد.

نماذج من الحداثة المعروضة علينا اليوم، وعلى الرغم من نجاحها العلمي والتقني، ذات ملامح سلطوية مخيفة

كانت الأجيال السابقة بصدد اكتشاف الحداثة من موقع عالميها "المحلي" و"التقليدي"، وكثير منها فكّر في الحداثة، وكتب عنها من خلفيته الثقافية الداخلية. أما اليوم فتبدو الصورة معكوسة من بعض الوجوه، حيث بات مثقفون عديدون يتحدثون عن الإسلام والمسلمين، بل "يكتشفون" الإسلام من داخل عوالم الحداثة، وأحيانا في العواصم الغربية نفسها. سافر الحاجي خوجا والشيخ الأفندي ومن بعدهما رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي في القرن التاسع عشر إلى أوروبا لاكتشاف فضائلها وقيمها الملهمة، بينما يسافر رجل مسيحي شرقي اليوم، مثل وائل حلاق ومن قبله إدوارد سعيد، إلى أميركا ويدرّسان في أعرق جامعاتها ليكتشفا فضائل الإسلام وجمالية اللغة العربية مع نزعة نقدية للحداثة، وهذا يعني أن أرضية التفكير وزوايا النظر إلى الماضي والحاضر في طريقها نحو التغير بسبب استيعاب الحداثة والوعي بمحدودية مقولاتها والتشبع باتجاهاتها النقدية.

لقد انتهت صورة أوروبا المتجاسرة والمندفعة، أوروبا التي تصنع السلم والحرب، تفرض المعاهدات وتؤدّب الحكام وتقرّع الخصوم والحلفاء، والولايات المتحدة من بعدها لم تعد في الوضع الذي يسمح لها بفرض إرادتها وإملاء شروطها على الجميع، فغرب اليوم مضطرُّ للمساومة والأخذ والعطاء أكثر من أي وقت مضى، لمواجهة منافسة قوى دوليةً كبرى صاعدة. ولذلك ستتراجع تلك النزعات العدائية والخطابات التحريضية ضد الإسلام والمسلمين.

هناك اليوم حقيقة بدأت تفرض نفسها على الجميع، محبّي الغرب وكارهيه، المقبلين عليه والرافضين له، أنّ العالم لم يعد منحصرا في الغرب الأوروبي والأطلسي، وربما يضطرّ المسلمون في مقبل العقود إلى تركيز أنظارهم، وتوجيه متابعاتهم للشرق أكثر من الغرب، أو في الحدّ الأدنى يحرّرون أنفسهم من سطوة أحادية النموذج.

يجب أن نتخلى هنا عن ثنائية الـ"نحن" مقابل الـ"هم"، أي بين أن نكون، نحن العرب والمسلمين، في موقع السيادة العالمية الكاملة، أو التبعية المطلقة، فهناك مساحةٌ وسطى واسعة بين هذا وذاك، لأن عالم اليوم يتّسع لأكثر من طرف، ويستوعب أكثر من قوة.