الكتابة هي ذلك العكّاز

الكتابة هي ذلك العكّاز

23 يونيو 2022

(صفوان ميلاد)

+ الخط -

حينما تضعف كل الحيل، حيل الحياة، وعيشها، أو التآلف معها، أو حتى الجلوس إلى هامش هادئ فيها بعيداً عن الصخب أو المنافع أو النصر أو حمل عار الهزيمة، تأتي الكتابة مهلّلة لنا، كي نعيد الوصل مع الحياة بالكتابة فيها وعنها. كحلم تأتي لنا كي تنتزعنا من الوحدة، وحدتنا. وكحلم أيضاً تهرب منا بعد حين، كي نواجه الحياة وحدنا بلا فرح وبكل حيل التعايش مرة ثانية.

في دروب الحياة، تكثر الحيل ويزداد التعب يوماً بعد آخر، وتكبر الحربُ وتكون أكثر خسّة ولؤماً من الحروب القديمة التي كانت واضحة وشريفة، والكتابة تتدارى وراء الخبث والمنافع ورمادية الحياد الخبيث في كل بلد، ويصير المذيع في البلد بطلاً وحامل حربةٍ وطبلة، ويناطح المصلح والسياسي ويزيد أجره وتزداد بجاحته، وخصوصاً في بلاد العرب. الكتابة مكسورة الخاطر هناك تنتظر ناقداً بعد أن يغسل يديه من حنوط الجوائز والمؤتمرات الدولية والمهرجانات والسفر، والكتابة هناك هادئةٌ لا تنتظر سوى سماحتها وظلها، والناشر، ذلك الجزّار الذي تعوّد شرب دمها ينتظر خلاصه في أي بلد أو أي فلوس أو أي موتٍ في ظل الجوائز التي تمنحها الأنظمة.

هي وحدها، التي لا ناقة لها ولا أي جمل أو حمل. وعلى الرغم من ذلك، تحمل الكتابة عذابات العالم على كاهلها بسخاء وبلا شكوى، الكتابة ذلك الشبّاك الوحيد الذي تأوي الروح إلى نوره الشحيح في ساعات التعب، شبّاك صغير ألفته الروح وملأ عليها العين، وأحياناً تكون الحياة صادقة ومريحة أيضاً، حينما يُخاصم الكاتب شبّاك روحه والكتابة، ويستمتع بالحياة متمسّكاً بها عن بعد في خصام متعة، كي يغيظ محبّته التي أهلكته، وكي ينجو بأفراحه الدنيوية ساعات، وكي يفرح بأولاده مع الناس، ويتأمل فرحهم بنجاحاتهم في هذه الدنيا التي أصبحت في عينيه صغيرةً وضيقةً عليه، واتسعت وحدته حتى تآلف معها وألفته وزاد عدد حمامه وصار له كأنيس. تأتيه الكتابة كي تحرمه الحمام وتحرم حمامه كفَّيه، فيتسع ذلك الشبّاك شاحب الضوء، ويرى غزالاته من بعيد تهلل وتتسع الغابة عليه ويرقص النعام، فيهرب إليها مخلصاً.

خرجنا من الدنيا كلها بلا أصحاب ولا أمل، هل الكتابة هي العكّاز. لأننا لولاها لكنا من أصحاب العرج بلا عرج، عرج في الروح، أشد قسوة من العرج الحقيقي. هل لذلك طالت صحبتنا مع ذلك العكّاز، وهربنا من الصحبة، هل الكتابة هي الصحبة الحقيقية، حتى وإن صاحبها عرج، عرج حتى وإن أصاب الروح، عرج يقينا عرجاً أشدّ خطورة حتى ونحن نرقص وسط العالم بلا عصا، هل الكتابة هي التي حمتنا من أن نكون مع هؤلاء الفرحين بالدساتير والضغائن واللؤم، بكل أنواعه وماركاته، والنصر وقوسه والمدفع والطائرة والخنجر ورمية السهم والمقاطعة ومزارع العنب ونصيب الملكة من عوائد العسل إلى حُمرة الخجل المصنوعة في المعمل؟ هل لذلك الكتابة أعزّ من كل شيء، وأعزّ من الأصحاب الطيبين وأعزّ من غابات الصنوبر ومن ذلك المنحل الذي يحوم حوله النحل فرحاً بالورد، لماذا هي دائماً تشبه العكّاز، رغم أن صاحبها ليس به أي عرج والسماء صافية والغزالات تمرح خلف الدنيا وأفرع شجر السيسبان قد مال مع الزمان في حنوّ، حتى لامس الماء الجاري في تلك القناة التي كم تأملتها في أوقات تعبي، كنت ساعتها أنتقي لي أي عكّاز دون أن أصاب بالعرج، كي أنجو منه، كي أهرب من عافيتي وأخلق عرجي الخاص، أربي بجواري عكّازي، كي أجده عند الضرورة، حينما يقلّ الناس وتتعثر الصحبة في ظروف الأيام القاسية على الجميع.

ذلك العكّاز كيف عرفت مبكراً أنه أملي، وكنت في منتصف ثانية ثانوي، وأذاكر وحيداً في دكان قديم أغلقناه، فجأة أبعدت عني الكتب، فاذا بي أخاف من الرسوب وأقرّب مني الكتب ثانية وأواصل المذاكرة، وكأنني أعاند شيطاني حتى نجحت ودخلت الصف الثالث، وأنا أواصل قهر شيطاني بالهمة والعافية نفسها حتى دخلت الجامعة. وهناك في هامش العودة إلى العكّاز فقدت سنتين في الجامعة حائراً بالعكّاز والضحك من دون أن أدخل محاضرة، إلا الفرجة على سحر البنات والجامعة ومحاولة الكتابة في حياء، حتى انتهيت إلى قسم الفلسفة بعد ضياع سنتين، فكبر عكّازي وقال لي: "اعقل". وبالفعل، منحتني الفلسفة عرجاً إضافياً وبلاهة الانتظار لشيءٍ لا أعرفه حتي صرت كأمين مكتبة، وجلست بعدها، "36" سنة أضحك مع الحظ حتى التفّ عكّازي حول عنقي وصرت من أصحاب المعاشات، وكبر أولادي وخافوا على طموحهم مني، فاخترت أن أربي الحمام بعيداً، وأفرح لأفراحهم ونجاحاتهم من بعيد وتأمل في فرح لبيوتهم.

سعيد أنا بذلك العكّاز، ومن عرقه ودموعه أرسل إليهم فلوسه، بعدما كبرت وأسعى بعكّازي إلى فرحهم سعيداً بمحبّتي.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري