الكتابة عن الحرب

الكتابة عن الحرب

09 ابريل 2024

(سامية حلبي)

+ الخط -

الكتابة عن الحرب جزءٌ من عيش هذه الحرب، وهي سيرتُها المحجوبة. حين بدأ جيش الاحتلال شنّ عدوانه على قطاع غزّة، قبل ستة أشهر، كانت الصحافة تؤدّي دوراً كبيراً في كشف الجرائم وتسليط الضوء على ما ترتبكه طائرات الاحتلال وبوارجه ومدفعيّته من مذابح بحقّ البشر والحجر والشجر، وكان ثمّة قصص تخرُج تباعاً عمّا يجري. مع ازدياد حدّة العدوان وتصاعده بشكلٍ متزايدٍ يوماً بعد آخر، بات ما يكتبه الكُتّاب والشعراء والفنانون والمُدوّنون من شهادات وحكايات شخصية، وحتى بوستات (تدوينات) قصيرة على صفحات التواصل، الصورة الأخرى لغياب الصورة الصحافية بعد كلّ ما ارتكبه جيش الاحتلال بحقّ الصحافيين والمؤسّسات الصحافية. أصبحت الكتابة عن الحرب، وعن الحياة خلال الحرب، وبالطبع عن الموت وعن النجاة بقدر ما هي أمر شخصي، نافذةً عامةً للإخبار عن الواقع في قطاع غزّة. في لحظةٍ معيّنة، انقطعت الأخبار وحاولت دولة الاحتلال فرض حصارٍ على المعلومة، وعلى الخبر وعلى الصورة، ولم يبقَ إلا تلك الكتابات التي بدت غير منظّمة وغير منتظمة، إذ ارتبطت أكثر بالوقت وبالتوقيت، وبتوفّر الإنترنت وتوفّر الكهرباء أيضاً، وكانت تلك الكتابات تقدّم معلوماتٍ شخصيةً عن حربٍ عامة، وتقدّم حالة فردية وسط مذابح جماعية، لكنها في المتن، وعميقاً، تتضمّن معلوماتٍ صحافية دقيقة تصلح لنشرات الأخبار. وكما كان الشعر ديوان العرب، وكما كانت الكتابة سجلّ الحياة، كما يمكن القول، كانت شهاداتُ الكتّاب والفنانين والمُدوّنين، وحتى تعليقاتهم الشخصية على صفحات بعضهم بعضاً، مادّة صحافية بامتياز، تُخبِرُ عن واقعٍ مُغلقٍ تجري ملاحقة كلّ ما يصدر عنه ومنع كلّ ما يمكن أن يشكّل تهديداً لحالة التعتيم عليه.

جوهر الكتابة عن الحرب هو الكتابة عن الفرد وعن الإنسان في صراعه من أجل البقاء حتى لو ارتبط هذا ببطولة يتم تجسيدها

والكتابة عن الحرب قديمةٌ قدم الكتابة ذاتها، وقدم الصراع بين البشر أيضاً. وربما انضوت أوّل النصوص الكبرى في تاريخ الكتابة في الشرق كما في الغرب، في الأساس، تحت ما يمكن تسميته أدب الحرب، فهي كتاباتٌ عن الحرب، الإشارة هنا إلى ملاحم الشرق، خصوصاً ملحمة جلجامش مثلاً، وإلياذة هوميروس الإغريقي، وإنيادة فيرجل الروماني. ولا يمكن تخيّل الأدب العالمي عن الكتابة عن الحرب بأشكالٍ مختلفة، سواء ضمن الأدب الوطني والقومي الذي يمثّل الصراع ضد الاحتلال أو ما نعرّفه في قاموسنا الأدبي بأدب المقاومة أو أدب المعارك، وربما بعض الروايات الشهيرة التي يمكن تصنيفها روايات حرب، خاصّة رواية هيمنغواي عن الحرب الأهلية في إسبانيا "لمن تُقرع الأجراس"، إلا إشارات في هذا السياق. جوهر الكتابة عن الحرب هو الكتابة عن الفرد وعن الإنسان في صراعه من أجل البقاء، حتى لو ارتبط هذا ببطولةٍ يتم تجسيدها، مثل حال الآداب الكلاسيكية بوصف البطل في تلك الآداب من النبلاء والقادة أو بتفاصيل الإنسان ومعاناته في وجه قوة الحرب غير المحتملة، وما يرتبط بهذا من تعظيمٍ للذات وتقديسٍ للنضال، مثل أدب الحروب الأهلية أو شعر الحربيْن العالميتين، وأدب المقاومة، وأدب مناهضة الاستعمار، وما يُعرف بأدب ما بعد التحرّر أيضاً.

تغدو مهمّة الكتابة عن الحرب ضرورية، خاصة حين تكون فكرة النجاة أمراً غير مؤكّد، ويكون الموت أمراً ممكناً بشكل كبير

في السياق الحالي، ثمّة إدراكٌ من الكُتّاب والفنانين في غزّة لأهمية الكتابة عما يجري، والكتابة عنه من وجهة نظر شخصيّة، بمعني التركيز على الخاص وعلى تفاصيل الحياة العادية من دون الولوج في وهج ما يجري، ومن دون تغييب ما يجري مع هذا. ثمّة طريقةٌ خاصةٌ تجعل الحرب شيئاً فردياً وشيئاً خاصّاً جدّاً، وهي كذلك في حقيقة الأمر، فالحرب قصّة شخصيّة لكلّ فرد، كما هي مجموع كلّ تلك القصص. منذ السابع من أكتوبر، ظهرت الكتابات الفلسطينية عن الحرب بأشكال مختلفة، وإن كانت صياغات الإعلام الاجتماعي أكثرها شيوعاً لضرورة وسرعة التخاطب، لكنها بدأت، مع الوقت، تأخذ نسقاً أكثر انتظاماً، إذ تطوّرت إلى نصوص ومشاريع كتابة محدّدة، ظهر بعضُها في كتبٍ جماعية أو كتب فردية. هذا الإدراك فرضته جملة عوامل، ربما أولها بشاعة ما يجري وقسوته وقسوة الظروف التي على الإنسان (والكاتب هنا إنسان) أن يعيشها، وتعتمد في كلّيتها على غياب كلّ مقومات الحياة الحقيقة. فيما يكمن العامل الثاني في طول المدّة التي استغرقها ويستغرقها العدوان. خلال الفترات السابقة، كان الاحتلال يشنّ بشكلٍ مستمرٍّ حروباً على غزّة وربما كان أطولها قبل هذه الحرب عدوان 2014، لكن كتاباتٍ عن الحرب لم تكن تظهر بشكل منتظم إلا قليلاً، ويمكن ذكر بعض هذه الحالات في حربي 2014 و2021، لكنّها مع ذلك كانت جهوداً فردية ونصوصاً محدّدة لبعضهم، بيد أنّ ما يحدث حالياً هو ظهور كثير من كتاباتٍ شبه يومية، حتى أنّ جلّ الكاتبات والكُتّاب، وزملائهم الفنّانين، أصبحوا يسجّلون بشكل شبه يومي ما يجري معهم، وصاروا أكثر جرأة في نشره وتعميمه، وكثيرا منهم بات لديه مشاريع أدبية، خلال الحرب وبعدها، تعتمد على الحرب وتأخذ منها مادتها. كما أنّ بعض الكُتّاب الذين يعيشون خارج غزّة، وإنطلاقاً من وازع وطني وتشاركي، أضحوا يسّجلون يوميات هذه الحرب بطرق مختلفة. ثمّة حالة إدراك لهذه الضرورة التي تجعل من الكتابة عن الحرب جزءاً من النضال من أجل وقفها، ومن أجل صمود الضحايا تحت القصف. 
تغدو مهمّة الكتابة عن الحرب ضرورية، خاصّة حين تكون فكرة النجاة أمراً غير مؤكّد، ويكون الموت أمراً ممكناً بشكلٍ كبير، لأنّها وقتها تعني تسجيل الحياة التي يمكن أن يحياها المرء. من هنا، أدب الحرب، إذا جاز التعبير، كما يُكتب في فلسطين، يختلف بشكل واضح عن مجمل ما يمكن إطلاق صفة أدب الحرب عليه في الأدب العالمي. هناك نصوص أدبية عالمية كثيرة سجّل فيها كُتّاب حياتهم خلال الحرب، ولكن هذه أيضاً كانت بدافع أدبي بحت في أحيانٍ كثيرة، أما رواية الحرب العالمية فقد أخذت منها سياقاً عاماً، مثل خشبة المسرح بالنسبة لنصوص الفنّ المسرحي من سوفوكليس حتى سعد الله ونوس.

مهمة الكتابة ليست الخلاص، لأنّ الحرب لا تترك مساحات كبيرة للتفكير في هذا الخلاص، بل تخليد الألم

ما أقوله أنّ سياق الكتابة عن الحرب في فلسطين مختلفٌ بشكل واضح، فالكاتب الفلسطيني يقوم بتسجيل يومي للحياة ولتفاصيل ما يتعرّض له بغية، أولاً، نقل ما يجري بشكل دقيق، معجوناً ببعض الانطباعات الشخصية، هل ما زال الأدب أو الفن ضمن نطاق الوعي الأرسطي محاكاة للواقع؟ هناك شعورٌ بوجود مهمّة ومهمّة خاصة وفردية تقع على كاهل الكاتب. مرّة أخرى، هذا سؤالٌ أضيق من السؤال العام عن دور الكاتب ودور الكتابة، وبعيداً عن النقاش العام بشأن مجمل علاقة المثقف بالمجتمع، وهو يتعلق فعلاً بشعور الفرد بأنّ ثمّة واجباً عليه وأنّ هناك مهمّة لا بد أن يقوم بها من أجله شخصياً، ومن أجل الجماعة التي يعيش فيها. وثانياً، لأنّ الكاتب يريد أن يترك شيئاً يمكن للآخرين أن يقرأوه لو أخذته الحرب. كلّ الشعراء والكتاب الزملاء الذين استشهدوا في الحرب كان ثمّة قصيدة أو قصة في رؤوسهم لم يتمكنوا من سردها أو ترديدها على مسامع الآخرين. مهمة الكاتب هي الاحتفال بالحياة والاحتفاء بالذاكرة التي يريد لها أن تدوم. إنّ مهمة الكتابة ليست الخلاص، لأنّ الحرب لا تترك مساحات كبيرة للتفكير في هذا الخلاص، بل تخليد الألم، كما تسعى لتخليد السعي نحو النجاة أو تعمل على ترك المألوف ليصبح أسطورياً بالإفرط بعاديته. 
والأمر كذلك، الكتابة عن الحرب جزء من عيش هذه الحرب، من التفكير فيها، ومن البحث عن الخلاص منها، ومن تذكّرها حين تنتهي. هل يريدُ أحدٌ أن ينسى؟ بالطبع لا، هل يريد أحدُ أن يتذكّر؟ أيضاً يصعب الجزم بـ"نعم" يقينية، إذ إنّ مثل هذه الكتابة بقدر ما توفّره، وثيقةً تاريخيةً واجتماعيةً واقتصاديةً وثقافيةً، فإنّها ستظلّ نصّاً يسعى إلى أن يجد طريقه في نهر الأدب الصالح لعبور الزمن، كما تعبر ذاكرة الحرب لأجيال.

عاطف أبو سيف
عاطف أبو سيف
روائي وقاص فلسطيني، وزير الثقافة السابق.