العراق .. سيناريوهات دم وأزمة حكم

العراق .. سيناريوهات دم وأزمة حكم

27 يناير 2021
+ الخط -

قلت له أسأله كيف يرى المشهد السياسي العراقي بعد واقعة الخميس الدامية التي فتكت بأرواح عشرات من الفقراء الذين طحنهم الجوع والمرض، وأوقعتهم حادثات الزمان في قبضة أقدار غاشمة، ومصائر لا قبل لهم بردها؟ 
أجاب: أحسب أن المشهد السياسي هنا لم يتغير على امتداد سبعة عشر عاما عجفاء، وأن ليس ثمّة ما يوحي بأن ضوءا ما في آخر النفق. إنه في حالة سيولة متدفقة يمينا ويسارا، إلى درجة أنك لا يمكن أن تخرج من رصدك له سوى بحقيقة واحدة، موغلة في المرارة، أن البلد يسير نحو المجهول، وليس ثمّة ما ينبئ بإمكانية وقف هذا المسير الصادم إلا بمعجزة، وحيث إننا لا نعيش في عصر المعجزات، فإن الأمر يظل متروكا للأقدار كي تأخذنا حيث تشاء! واستطرد: ليست هذه الرؤية القاتمة ابنة تشاؤم مرّ أو يأس قاتل، إنما هو واقع الحال يظهر ذلك في هذه الكومة من السيناريوهات الغامضة التي تديرها قوى من داخل الحدود وخارجها، وهذه الكومة من الصراعات بين الكتل والأحزاب التي وصل عددها إلى أكثر من أربعمائة كتلة وحزب، ونحن على مسافة شهور من انتخابات برلمانية، قيل لنا إنها ستنقلنا إلى مرحلة جديدة، تحقق لنا الأمن والأمان، وهذه الكومة من التفجيرات وحوادث الخطف والاغتيال الحاصلة في الليل والنهار، والتي يقف وراءها أناسٌ معلومون مجهولون وقوى خفية ومعلنة، دول وأحزاب ومليشيات ومافيات، وكلها تراهن على بلدٍ لم يعد له حول ولا طول.

عملت الجهات الأمنية في الساعة الأولى على مسح آثار جريمة الخميس ورفع الأنقاض على عجل، وكأن الهدف هو محو أي أثرٍ يدلّ على الفاعل

تصوّر أن مسؤولين كبارا في الأجهزة الأمنية التي يُفترض أنها تحمي البلد وتحرس أبناءه يهوّنون مما حدث ويحدث، ويرسمون لمواطنيهم صورة وردية للحال الماثل، وكأن مسيل الدم الذي تدفق في واقعة "الخميس الأسود" لم يكن كافيا لإيقاظ الضمائر، وشحذ الهمم. ويقولون لك إن بغداد آمنة، وما حدث هو مجرد خرق أمني يمكن أن يقع في أحسن الدول، وإن التحقيق جار لمعرفة الفاعل الذي يظل "مجهولا" دائما، أو أن "خلايا إرهابية نائمة" استيقظت في غفلةٍ من عيون الرقباء ففعلت ما فعلت. وقد سمعنا هذه التبريرات مرارا، ولم يعد أحدٌ ليصدّقها. ولمسنا بعد واقعة "الخميس" في إجراءات السلطة ما يدفع المراقب إلى الضحك الذي يشبه البكاء، فقد عملت الجهات الأمنية في الساعة الأولى على مسح آثار الجريمة ورفع الأنقاض على عجل، وكأن الهدف هو محو أي أثرٍ يدلّ على الفاعل، أو يستدل منه على وقائع معينة يُراد طمسها. ولكي ينسى الناس ما حدث، ويعودوا إلى دورة همومهم اليومية، كما صدرت قراراتٌ بتحميل بعض رجال الأمن الكبار مسؤولية ما حدث وإقالتهم. وما لبث قرار لاحق أن أبطل مفعول ما سبق. وهكذا رسمت نهاية الجريمة – الفاجعة، وانتهى كل شيء، وعاد الحال كما كان. أما باعة الشاي، و"السميط"، و"الملابس المستعملة، أما الشقيقان عمر وعلي والآخرون الذين اختطفتهم غائلة الموت، أما الأسر المفجوعة بفقدان أحبائها، أما الفقراء والجوعى الذين يومهم خليط من مصائب وخيبات، فحسبهم الله!"

ليس من سبيلٍ سوى التغيير الجذري الشامل، والانتقال إلى عملية وطنية خالصة تعيد العراق إلى أهله

عدت أسأله: أما ترى حلا في الأفق بعد كل الذي جرى؟
ـ أظن أن الحل المطلوب، وبعد التجارب المريرة التي عشناها، لن يكون في إجراءاتٍ ترقيعيةٍ أو خطوات إصلاح محدودة، ولا في انتخاباتٍ مرسوم لها أن تحافظ على الوجوه التي أحكمت قبضتها على السلطة والمال والقرار، لأن الأزمة أكبر بكثير مما نتصوّر، إنها أزمة حكم حمل أزمته معه، منذ ساعة ولادته على يد الأميركيين، وليس من سبيلٍ سوى التغيير الجذري الشامل، تفكيك "العملية السياسية" الطائفية، والانتقال إلى عملية وطنية خالصة تعيد العراق إلى أهله، وتمنع هيمنة الغرباء عليه، وتقضي على الفساد والفاسدين، وتقيم العدل على أساس المواطنة الكاملة وسيادة القانون، وتقضي على المليشيات والمافيات وتضع السلاح كله في يد الدولة، وليس ثمة حل آخر.
قلت: ومن يمكنه أن يعلق الجرس؟
ـ قرار واحد فقط من مجلس الأمن يضع العراق تحت الوصاية الدولية، ويشكل سلطة انتقالية تجري التغيير المطلوب، وتحقق مطالب ثوار تشرين الذين تقع عليهم مهمة ترصين ثورتهم وتقوية فاعليتها، وإلا فإن سيناريوهات الدم ستتواصل لتأخذنا إلى المجهول، ومرة أخرى سنقول: حسبنا الله.
.. تهدّج صوته القادم من هناك، وخيل إلي أن أنظاره تتجه نحو الأفق البعيد، تلتمس تحقيق ما يأمله.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"