السلطوياتُ العربية وكابوسُ المقاومة

السلطوياتُ العربية وكابوسُ المقاومة

07 ديسمبر 2023
+ الخط -

لم تتوقّع السلطويات العربية أن تسجل المقاومة الفلسطينية هذا الصمود البطولي في وجه الجيش الإسرائيلي الذي لطالما وُصف بأنه لا يُقهر، وأن تُكبّده خسائر غير مسبوقة في الأرواح والعتاد، هذا من دون الحديث عن الصدمة العميقة التي خلّفتها عملية طوفان الأقصى في الدولة والمجتمع الإسرائيلييْن.

كان واضحا، منذ بداية العدوان على قطاع غزّة، أن هذه السلطويات تُمنّي النفس بنصر ساحق للجيش الإسرائيلي في مواجهة المقاومة التي لم توجّه ضربة موجعة للاحتلال فحسب، بل ألقت حجرا في مستنقع السياسة العربية الفاسدة، وأحرجت بذلك الاستبداد العربي، وكشفت تواطؤه أمام شعوبه.

عوامل كثيرة يمكن، من خلالها، تفسير العداء الذي تُكِنّه السلطويات العربية للمقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس التي تشكّل عمودها الفقري. أولها أن عودة خيار الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، أو على الأقل إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس على حدود 1967، يعيد إلى الواجهة القضية الفلسطينية، ليس فقط لأنها قضية شعب اغتُصبت أرضه، وتعرّض لشتى أنواع الظلم من تهجير وتقتيل من الكيان الغاصب المسنود بالقوى الاستعمارية الكبرى، ولكن أيضا لأنها موردُ تعبئة حاسم في تغذية الرأي العام العربي وإعادته إلى الشارع، بعد الانتكاسة التي مُنيت بهما الموجتان الأولى والثانية من ثورات الربيع العربي. وهو ما يربك حسابات هذه السلطويات، وفي مقدمتها تلك التي تورّطت في اتفاقات تطبيع مع إسرائيل. كما أنه يمنح إسرائيل والغرب ''شيكا على بياض'' لمواصلة حرب الإبادة على غزّة، ويَحول دون تشكُّل ضغوط إقليمية ودولية مؤثرة على دولة الاحتلال للقبول بوقف إطلاق النار، أو على الأقل إقرار هدنة إنسانية طويلة المدى.

تبدو فكرة المقاومة في حد ذاتها كابوسا بالنسبة للأنظمة السلطوية العربية، على اعتبار أن أحد الأهداف الرئيسة التي سطّرها محور الثورة المضادّة في الإقليم، بعد 2013، كان اجتثاث فكرة المقاومة، وضرب مصادرها داخل المجتمعات العربية، وبالتالي، إقبار خيار الإصلاح الديمقراطي السلمي الذي جاءت به ثورات الربيع العربي. كانت مقاومة الاستبداد والفساد في قلب هذه الثورات. ولذلك، أيُّ محاولة لضخ الروح مجدّدا فيها بعد إجهاضها يعدُّ تهديدا حيويا لمصالح هذه السلطويات ومستقبلها.

ويزداد الأمر خطورة بالنسبة لهذه السلطويات، بسبب الانتماء الإيديولوجي والفكري (الإسلامي) لحركة حماس التي تقود المقاومة الفلسطينية. صحيحٌ أن الحركة لا ترتبط تنظيميا بأي حزب إسلامي في الإقليم، لكن خطابها وأداءها يندرجان تحت مظلّة الإسلام السياسي. وهو ما يجعلها خصما لدودا لأكثر من نظام في الإقليم، خصوصا النظام المصري الذي يصبُّ القضاءُ على "حماس" في مصلحته، بسبب الانتماء الإيديولوجي المشترك للحركة مع تنظيم الإخوان المسلمين الذي يشنّ عليه هذا النظام حربَ اجتثاث منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح حكم الرئيس الراحل محمد مرسي.

في السياق ذاته، تُحرج المقاومة الفلسطينية السلطويات العربية بصمودها أمام آلة الحرب الإسرائيلية، التي لا تجد أمامها غير المدنيين الأبرياء للانتقام من المقاومة بارتكاب مجازر مروّعة بحقهم؛ تُحرجها لأنها كشفت خذلانها وتواطؤها وسقوطها أمام شعوبها وأمام التاريخ. ولم تكتف المقاومة بصمودها وقدرتها على توظيف إمكاناتها العسكرية المحدودة، قياسا بتلك التي بحوزة قوات الاحتلال، بل أظهرت كفاءة عالية في إدارة المفاوضات بشأن المحتجزين الإسرائيليين لديها، ما يستدعي إلى الأذهان، بالضرورة، الفشل التاريخي المعلوم لهذه السلطويات أمام إسرائيل على الواجهتين العسكرية والدبلوماسية، ويساهم في تآكل شرعيتها.

تواجه السلطويات العربية مأزقا حقيقيا، فليس هناك ما ينبئ بأن نهاية الحرب باتت وشيكة. حتى أكثر التقارير الإسرائيلية تفاؤلا تؤكّد أن القضاء على حركة حماس وتفكيك قدراتها سيتطلب شهورا إن لم يكن سنوات. ولا شك أن مواصلة إسرائيل عدوانها الوحشي، وارتفاع تكاليفه البشرية والأخلاقية والسياسية، واتساع قاعدة المؤيدين لفلسطين في الغرب، ذلك كله يحرج هذه السلطويات أكثر، ويسائل شرعيتها في مجتمعاتٍ ظلت القضية الفلسطينية في قلب وجدانها الشعبي.