الرمادية في فلسطين ليست للحبّ والحرب

الرمادية في فلسطين ليست للحبّ والحرب

09 نوفمبر 2023
+ الخط -

يقول الشاعر تميم البرغوثي "لا أدري لماذا يُلح علينا الحب وقت الحرب". ويقول أيضًا "...، يا صبايانا، لو كنتنّ تدرين كم قوة تبثها فينا ابتسامتكن، وقولكن لنا (تهون يا ابن عم)، لو تدرين كم عدوّا تهزمن حين تفتحن لنا ملاجئ بين كفوفكن، وكم جريحا تشفين… وأنتنّ كالنوارس تبشرننا بالأرض". وأنا هنا نورس أبشّر بالأرض، كل الأرض، رغم الحرب؟

الحرب والحب بطبيعتهما طوفانٌ لا يقبل الرمادية، ويجرف كل ما يقابله، ولولا طوفان حُبّ الأرض لما كان طوفان الحرب توقف عن الاستمرار والتكرار. حبّ فلسطين هو الحبّ حتى منتهاه، والتضحية حتى آخرها، والشجاعة حتى الثمالة. هل يعشق المحبوب محبوبته "ع الخفيف"؟ وهل يقبل الحُب الحسابات العقلانية، فإذا كان الحب الإنساني الفطري في أغلب الحالات جنون، وفي حالات أخرى أفضى إلى فناء أحد الطرفين أو كليهما، فكيف لا يكون حبّ البلاد كذلك، وهو الذي يجمع عاطفة الانتماء للأرض والدين والتاريخ معًا؟

فلسطين رقم فردي لا يقبل القسمة على اثنين. هنا يكمن البياض الأكبر، في الحقّ الطبيعي غير القابل قطعًا للنقاش، أو تبادل الآراء، فترة الحرب خصوصا، بأن البلاد للفلسطينيين فقط. هذا البياض يقابله سواد يتمثل في التعاطي مع الوجود الإسرائيلي كأمر واقع وحتمية وجودية. ولذلك، ظهرت لدينا حلول سياسية رمادية. وللأسف، منشأها في الغالب فلسطيني، "للتعايش" مع المستعمر، في دولة واحدة أو دولتين. أثبت تاريخ "الحب والحرب" في فلسطين فشل هذه الحلول وسقوطها سقوطًا مدوّيا أمام كل صراع عسكري جمعي، أو عمل مقاوم فردي. وحتى في فترات الهدوء النسبي، لم تسمح إسرائيل بتطبيق أي منهما، رغم التنازلات الفلسطينية (الرسمية) المتتالية عن الأرض تدريجيًا.

فلسطين رقم فردي لا يقبل القسمة على اثنين. هنا يكمن البياض الأكبر، في الحقّ الطبيعي غير القابل قطعًا للنقاش، أو تبادل الآراء

ثبتت هذه العلاقة بين الحب والحرب في فيتنام والجزائر وليبيا والهند وسورية وكوبا ومصر وكل مكان، سيقول بعضهم إن جنوب أفريقيا قبلت! ببساطة، ارتباط الشعب الفلسطيني بالأرض لا يقوم فقط على أننا ولدنا فيها، بل لها قدسيّة دينية تفوق أهمية دول كثيرة. فوق ذلك، يُثبت تاريخنا نحن أن الشعب الفلسطيني لم يقبل شريكا، لذلك لم يكن تاريخ البلاد إلا قصة استعمار مستمرّ لمستعمرين مختلفين متبدلين، ولكن الفلسطيني ظلّ واحدًا، دائمًا، رَفض القِسمة.

بياضٌ آخر، وهو الصراع من أجل البقاء، مقاومة الاستعمار لا تقع ضمن "رفاهية الاختيار"، فالاستعمار يدفع الإنسان المُستَعمَر بشكل فطري إلى مقاومته للبقاء. السواد هنا أن كل مقاومة لأجل البقاء يقابلها الموت. وهنا تأتي جدلية العلاقة بين الموت والحياة، في فلسطين، في غزّة، يولد الأطفال من أرحام أمهاتهم الشهيدات، تولد الحياة من الموت. كان الحب بياضًا لولادة الحياة، والاستعمار كان السواد لارتقاء الأم وليس المقاومة. الصراع من أجل البقاء في الحالات الاستعمارية والفلسطينية على وجه التحديد تقوم بجوهرها على فناء الجسد، الفداء.

يكتب الشهداء المُقبلون على الشهادة وصاياهم، ينادون بكل فلسطين: "كل البلاد لنا". يتقاطع فكرهم المقاوم مع العمل العسكري. وهنا نتذكّر مقولة لا تُنسى لباسل الأعرج، "إن لم تكن مشتبكا، فلا فيك ولا بثقافتك"، وارتقى. أما تاريخ المثقف الفلسطيني، فالمثال الأكثر بياضًا كان ناجي العلي، عندما قال "اللي بدّه يكتب عن فلسطين، واللّي بدّه يرسم لفلسطين، بدّو يعرف حاله ميّت"، وارتقى أيضًا. أما السواد المقابل لهذا البياض فهو إيجاد الاستعمار واقعا يجعل فلسطينيين كثيرين يلجأون إلى وضع حلولٍ سياسيةٍ تغيب عنها نقطة جوهرية في الصراع، وهي العقيدة الصهيونية. هل من تعلم ترتيب الكلمات والكتابة وقرأ آلاف الكتب أو من عاد من الخارج واستلم منصبًا يستطيع أن يتّخذ قرارًا عن شعب كامل؟.

وهم السلام، وهم الإسرائيلي المسالم، وهم اليسار الإسرائيلي اختفى في لحظة، الكل حاليا ينادي بإبادة الفلسطيني

يجيب الواقع الفلسطيني بالنفي، في كل مرّة وقعت فيها حربٌ أو انتفاضات كانت نتيجة لزيادة سطوة الاستعمار الإسرائيلي على الأرض، ولكن الفلسطيني يثبت، في كل مرّة، بأنه كالعنقاء، يخرُج من تحت الركام، ينفُض الغبار، ويعلن الحياة من جديد، الحياة التي في داخلها فداء. من دون الذهاب بعيدًا في التاريخ، الانتفاضتان الأولى والثانية، واجتياح الضفة الغربية، والحروب على غزّة منذ 2008، تثبت جميعها أن هذا الشعب لا يكترث ولا يصغي للحلول السياسية، ولا لأفكار بعض المثقفين الواقعيين. لماذا شكّل كل من كمال ناصر وغسّان كنفاني وناجي العلي وغيرهم من أبناء زمانهم رموزًا ثورية للشعب؟ ببساطة، ليس لأنهم قضوا شهداء، بل لأنهم انخرطوا فكريًا مع الرغبة والإرادة الشعبية.

بياضنا اليوم، كجيل فلسطيني ناشئ، أن روح الفداء عادت إلينا، والتي تم قتلها منذ عام 2002. السواد هنا بأن الروح عادت بسبب إجرام الاستعمار، وليس لأن الفلسطيني يحبّ الموت، بل نجيد عمل الفداء. لا يقبل عقلنا اليوم هذا الوجود الاستعماري. وسأدّعي الآن أنني أمثّل شريحة كبيرة من أبناء جيلي. نحن لا نرمي عقولنا في متاهات تعريف من هو الفلسطيني، وفخ تعريف حدود فلسطين، فهي بديهية بالنسبة لنا. لا نريد أن يعلمنا أحد ما هي فلسطين، نحن نعرف من نحبّ، ونعي تماما كلفة هذا الحبّ، ولسنا مقيدين بحبّ الحياة الدُنيا. نحن لا نخاف الفناء، بل نخاف ضياع البلاد تحت مسمّيات رمادية للتعايش مع أقذر استعمار في التاريخ الحديث، هو بالأساس لا يقبل وجودنا.

لو أعدنا إحياء بلفور أو بن غوريون، وسألناهما من هو الفلسطيني، لأجابا بدون تردد: هو الذي لا يقبل بنا

وهم السلام، وهم الإسرائيلي المسالم، وهم اليسار الإسرائيلي اختفى في لحظة، الكل حاليا ينادي بإبادة الفلسطيني. ويتوهّم هذا الكيان بأنه قادرٌ على إبادة شعب بأكمله، وأنه إذا استطاع القضاء على المقاومة في غزّة فهذا سيجلب لكيانه الأمان. المقاومة فكرة، والفكرة لا تُباد ولا تُغتال ولا تُغتصب ولا حتى تؤسَر. هل كانت المقاومة سببًا لجرائم إسرائيل؟ هل نحملها وزر ما يحدُث؟ الإجابة القطعية، لا. فإن كان كذلك، هل يُعقل أن نحمل عبد القادر الحسيني وعزّ الدين القسّام دماء شهداء الثورة العربية، أو نحمّل ياسر عرفات دماء آلاف شهداء الأجهزة الأمنية، ونحمّل منظمّة التحرير دماء شهداء صبرا وشاتيلا وتلّ الزعتر، ونحمّل جباليا في قطاع غزّة دماء شهداء الانتفاضة الأولى، ولندع قائمة الدم وتحميل الوزر تطول!

لم يكن تاريخ الشعوب التي حاربت الاستعمار مكلّلا بالورود، بل مخضّبا بدماء الشهداء. أكتب هذا وأنا على وعي تام بأن الفقدَ آتٍ لا محالة، وأن الدم سيصل إلى هذا الكفّ الذي يبشر بالأرض عاجلًا أم آجلا. الطرف الوحيد الذي يتحمّل هذه الدماء هو الاستعمار، الذي لا يحتاج مبررًا لقتلنا وتهجيرنا وإبادتنا. هل كانت المقاومة الفلسطينية، وفي مقدّمتها حركة حماس، سببًا في استعمار فلسطين وتهجير السكان وحرقهم أحياء واغتصاب النساء عام 1948؟ هل المقاومة كانت السبب في احتلال ما تبقى من الأرض عام 1967، أم هي السبب في توسّع الاستيطان في الضفة الغربية والقدس؟ من يحمّل المقاومة مسؤولية ما يحدُث عليه هو شخصيًا أن يعيد النظر في هويته. لا يحتاج الفلسطيني الأبيض إلى تعريف. ولو أعدنا إحياء بلفور أو بن غوريون، وسألناهما من هو الفلسطيني، لأجابا بدون تردد: هو الذي لا يقبل بنا. ... أنا الفلسطينية اللارمادية، التي تبشّر بكل البلاد، في الحب والحرب، نورسٌ أبشّر بالأرض.

رزان شوامرة
رزان شوامرة
باحثة فلسطينية، طالبة دكتوراة علاقات دولية، جامعة شرق البحر المتوسط، قبرص الشمالية.