الحياة الخفيّة ليُوريدِس غيزمو

الحياة الخفيّة ليُوريدِس غيزمو

24 يونيو 2022
+ الخط -

هما أختان لهما ارتباطُ التّوائم وتماسكهم، حتى أنّهما لم تَستطعِما الحياة حين فرّقهما الأب. لكنّهما حفظتا الحبّ إلى آخر العمر؛ فظلّت كل منهما تبحث عن الأُخرى عشرات السّنين، مقتنعة بأنّ الأخرى تعيش حياة أفضل، وفي ذلك عزاءٌ لها. لكن كلتيهما كانت تعيش في بؤس. لنمط الحياة الذي أُجبرتا عليه، سواء للأخت التي طردها الأب من الأسرة، أو التي ظلّت داخلها، حتى عندما تزوجت لم تبتعد.

يروي الفيلم البرازيلي "الحياةُ الخفيّة ليوريدِسْ غيزمو" قصة أختين تعرّضتا لكل أنواع الظلم من الأسرة والمجتمع، حتى أنّهما، وهُما السّند الوحيد لبعضهما، تم تفريقُهما، إلى آخر العمر، فتظلُّ، أنت المشاهد الذي يرى المسار المؤلم لحياة كلّ منهما، تأمل أن تلتقيا في أيٍّ من عتبات الحياة. لكن هيهات، ظلّت الظروف حولهما تتحكّم في مساراتهما، وتُبعدهما بعضهما عن بعض.

مع ذلك، الفيلم تحفة سينمائية حقيقيّة، ولا يمنع الأسى والألم اللّذان يأكلان كل شيء حيّ فيه، من رؤيته، فهو تجربة فارقة في روح المشاهد؛ من حيث الاقتراب من قسوة بعض الأُسر ضد النساء، حتى ولو كان المجتمع غير عربي وغير مسلم وغير شرقي، فإنّه كان قاسياً ضد البطلتين، كما ضدّ النساء عموماً. هكذا سيجد الذين يقولون إنّ المرأة في العالم غير العربي، لا تقل معاناة عن المرأة فيه، دليلاً أكيداً على ذلك. وكأنه عذرٌ حقيقي للعنف على المرأة الشرقية.

يُذكّر الفيلم برواية "الدفتر الكبير"، وبطليها التّوأمين اللّذين فرّقهما والدهما، حتى يعتادا على العيش بعيداً. ثم فرّقتهما الحدود عندما هرب أحدهما من النّظام الاستبدادي في بلدهما .. لكن شعورا غامرا من التّماهي مع الآخر جعل بُعدَهما عن بعضهما فصلاً لهما عن لذّة الحياة. كيف يفرح من قُسم جسده وروحه على اثنين، ووضع أحدهما في مكانٍ لا يصل إليه الآخر، كبيدقين ليس لهما من حراكٍ غير ما تفعله يد اللاعبين؟

عندما تحرم توأماً من نصفه الآخر، فأنت تمنعه من تحقيق التوازن النفسي، طالما حُرم ممّن يحب. والحرمان جريمةُ عاطفيةُ يرتكبها الآباء أكثر من غيرهم، فما من كائنٍ له القدرة على التحكّم في مصير آخر أكثر من الوالدين؛ فبيديهما أن يصنعا إنساناً سويّاً، أو كائناً مسموماً يدسّانه في خاصرة المجتمع، ليُدمّر كلّ ما يحتكّ معه من بشرٍ أو يلمسه من حجر.

فيلم "The Invisible Life of Eurídice Gusmão" صرخة قوية وعميقة. لابد من مشاهدته رغم النّهاية المؤسفة؛ إذ لا شيء أسوأ من نهايةٍ حزينةٍ لفيلم تتغلغل شخصياته داخل أرواحنا كدبيب نملة. لكن لو لم تكن النّهاية هكذا، هل كان الفيلم سيعلق داخل كلّ منّا؟ قد يفعل نسبيّاً ثم ننساه تحت خدر نهايته السّعيدة. لكن وهو هكذا صفعنا، وأبقانا متيقّظين كالذئاب تنام بعينٍ واحدة. الثانية تبحث في المحيط عن مصير بديل، من أجل غيدا ويوريدس.

يشكّل الأبناء في جلّ الأسر التقليدية استثماراً من أجل التقاعد، والعجز في آخر العمر، لا من أجل منحهم حياةً أفضل من حياتهم، وأفضل ما يمكنهم الحصول عليه في مجتمعاتٍ تعاني من آفاتٍ كثيرةٍ معدية تسوّس حياة وروح كل من أُعدي بها. والعنف أكثرها خطورةً وقابليةً للعدوى. ولعل أقرب نموذج هي حالة الشابة المصرية نيرة التي قتلها زميلها أمام باب الجامعة.

الجامعة، حيث يرسل الآباء أبناءهم وهم أكثر اطمئناناً، فالمدارس والجامعات بيوتهم الثانية. ولكن إذا كان البيت نفسُه أكثر خطورة على النساء من الشارع، بالنسبة للعنفين، النفسي والجسدي، فإنّ البيت الثاني لن يقلّ عنفاً عن ذلك. لكنه يكون غالبا عنفاً لفظياً وتحرّشاً جنسياً، غير أن القتل مستوى آخر من العنف لا نجده للأسف إلا في البيوت بسبب النّظرة الذكورية إلى المرأة التي تراها مِلكا للرجل. أبا أو أخا أو زوجا. وهو كأي مالكٍ له أن يتصرّف في ما يملكه، ولو بإسكاته إلى الأبد، وهو ما قد يحدث في حالاتٍ غير قليلة.

تدور قصة يوريدس وغيدا في خمسينيات القرن الماضي، أما الآن، فالأمور تغيّرت كليّا هناك. في انتظار تغيّرها هنا.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج