الحالة الإثيوبية وتشابكات القرن الأفريقي ..

الحالة الإثيوبية وتشابكات القرن الأفريقي .. أزمة الدولة في القارّة بعد الاستعمار

26 نوفمبر 2021

مجندون إثيوبيون في حفل بأديس أبابا توديع قوات إلى جبهة القتال (24/11/2021/فرانس برس)

+ الخط -

تكشف حالة الأزمة الإثيوبية الحالية عن مدى عمق معضلات الدولة الأفريقية، وتجذر أوجه الخلل البنيوي الكثيرة الذي قامت عليه منذ الاستقلال، ويضاف إلى ذلك ما تعنيه الحالة الإثيوبية من تشوّه بناء دولةٍ قامت منذ منتصف القرن التاسع عشر على "استعمار داخلي" لشعوب أضعف من جهة القوة العسكرية، وضمّها قسرًا داخل حدود "إثيوبيا الحالية" السياسية، بدعم مباشر من قوى الاستعمار الأوروبي في الإقليم؛ ما يوحي حاليًا بأن تفهم جذور أزمة الدولة وتطوراتها التاريخية يحيل إلى فهم أكثر دقّة للأزمة الحالية في إثيوبيا وخيارات رئيس الوزراء آبي أحمد ونخبته السياسية "الضيقة"، ونقد مساعيها إعادة إنتاج ديناميات الهيمنة "الحبشية" (الإثنية - دينية) على بقية مكونات دولة إثيوبيا الحالية؛ إما باستحضار أسس دينية أسطورية، تقوم على أفكار النبوءات والصدامات الأيديولوجية (الحقيقية والمفتعلة)، أو تبنّي معادلات صفرية في الصراع السياسي الدائر حاليًا، بغض النظر عن تداعياته الداخلية والإقليمية وتكاليفه البشرية الخطيرة، وغير المسبوقة أفريقيًا منذ أزمة التطهير العرقي في رواندا وبوروندي في تسعينيات القرن الفائت. 

أزمة الدولة الأفريقية بعد الاستعمار

تتعدّد أسباب ضعف الدولة الأفريقية وأزماتها المزمنة؛ من أبرزها، تاريخيًا، ما خلفه الإرث الاستعماري من إعاقة إقامة "بيروقراطية كفئة" لا تعتمد فحسب على جهاز إداري مدرّب جيدًا، ولكن على درجةٍ من التماسك المجتمعي والشعور بالهوية الوطنية؛ كما آزر العهد الاستعماري، حسبما يؤكد مالتي بروسيج Malte Brosig في تقديمه كتاب "أفريقيا في نظام عالمي متغير" (2021)، وجود أشكال من "الدولة الوراثية الجديدة" (سواء بوراثة منصب رأس الدولة كما تم في تشاد أو تحكم نخب سياسية ضيقة تحول دون أي تداول سلمي للسلطة كم تم في حالة آبي أحمد في إثيوبيا) تتضارب فيها المصالح الخاصة من أجل الإثراء والسعي وراء السلطة مع المصالح العامة، ومن ثم تحجم أي "حكم فعال" في أفريقيا.  

تفهم جذور أزمة الدولة وتطوراتها التاريخية يحيل إلى فهم أكثر دقّة للأزمة الحالية في إثيوبيا

 

ويمكن إرجاع جوانب من أزمة الدولة في أفريقيا، وفق دراسة مهمة لشاهين مظفر حول المسألة (1987)، إلى عدم ترابط العمليات التاريخية المشتركة المؤدّية إلى تكوين الدولة والتطور الرأسمالي، وأن "الدولة الحديثة" في أفريقيا قد فرضتها القوى الاستعمارية من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية وعسكرية (في تجلٍّ لنظرية التبعية، وفي الحالة الإثيوبية حيث اتسمت عملية تكون الدولة الإثيوبية بأنها تطوّر استعماري مستمر حتى منتصف القرن الماضي على الأقل، بضم الإمبراطور هيلاسيلاسي إريتريا إلى بلاده). كما فرضت الدولة الاستعمارية  سياساتها على المجتمعات الأفريقية التي كانت قائمة بالأساس على زراعةٍ فلاحيةٍ صغيرة الحجم؛ ما قاد إلى تناقضاتٍ عميقة، سواء في طبيعة الدولة "المفروضة" على أفريقيا أم في تأثيراتها على المجتمعات الأفريقية، مع ملاحظة ما يعتبره شاهين مظفر أن "الدولة الاستعمارية المفروضة على أفريقيا في نهاية القرن التاسع عشر لم تكن ذات وضع مستقل في القانون الدولي"، لكنها كانت تستقي وضعها القانوني من الدولة (الأوروبية) ذات السيادة، أو من دعم القوى الأوروبية الاستعمارية كما في الحالة الإثيوبية. 

واستمرّت أزمة الدولة الأفريقية بشكل واضح كما في نماذج متنوعة سياسيًا وجغرافيًا، وعدم القدرة على إنتاج تحوّل ديمقراطي مستدام. وفيما يفهم التحول الديمقراطي، تقليديًا، على أنه بناء مؤسسات دولة وظيفية ومستدامة تقع في قلب عملية بناء الدولة ذاتها، فإن المؤسسات في أفريقيا ما بعد الاستعمار ظلت تنقسم، حسب ريدي بيركيتيب Redie Bereketeab في مقدّمة مفاهيمية لمؤلف مهم عن "بناء الدولة وإعادة بناء الهوية الوطنية في القرن الأفريقي" (2017)، إلى نوعين: المؤسسات الحديثة التي زرعها الاستعمار، واستوردتها دولة ما بعد الاستعمار، وقد اكتسبت تاريخيًا "طابعًا رسميًا"، بينما صنفت المؤسسات التقليدية (النوع الثاني) "غير رسمية" للدولة. ونتج عن هذه الثنائية مجالان عامان رئيسان: الحضر والريف (وما تبعه من تكريس للهيمنة السياسية النخبوية "الحضرية" في حالات شتى). وقادت هذه الحالة إلى التهديد بتفتّت المؤسسات وصدامات حتمية بها. ومن هنا، فإن أي بناء دولة سليم كان يتطلب (نظريًا على الأقل) توازنًا واضحًا بين الإرثين المؤسساتيين. وإضافة إلى المؤسسات والبنى الحديثة، فإننا بحاجة إلى أن نأخذ في الاعتبار أبعادًا أخرى، مثل دور المؤسسات والسلطات والآليات والممارسات التقليدية (غير الرسمية) في "بناء الدولة"، والتي وضعت قيودًا على تطوّرها؛ ما يمكن أن يقود إلى فهم أعمق لأزمة الدولة الأفريقية الحالية، على الرغم من مرور أكثر من ستين عامًا على استقلال أغلب الدول الأفريقية وتنوع أشكال الحكم بها، وكذلك في فهم الحالة الإثيوبية الراهنة بتسليط الضوء على الديناميات الداخلية الجوهرية لأزمة الدولة.

جذور المشكلة الإثيوبية .. سياسات الأرض نموذجًا

تصدّرت إثيوبيا وتجربتها الاقتصادية (في ظل تجاهل دولي وإقليمي أزمتها السياسية البنيوية بشكل واضح قبل أزمة إقليم التيغراي التي اندلعت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) المحافل الدولية المعنية بأفريقيا، والتي اعتبرت إثيوبيا "الأسد الأفريقي" الصاعد بمعدلات نمو تجاوزت 10% طوال العقد (2009-2018)، مع إغفالٍ، متعمد في أحيان كثيرة، حقيقة أن هذا النمو ظلّ، في جانب كبير منه، ظاهرة جوفاء، تقوم على نمو غير طبيعي في قطاع الخدمات باستثمارات خارجية بالأساس لم تكتمل دورتها، وما يمكن وصفها إعادة تدوير أصول الدولة (مثلما حدث في منح رخصة الهاتف المحمول لشركة دولية في مايو/ أيار 2021، واعتبرت وقتها آخر الاحتكارات الكبيرة في قطاع الاتصالات الدولية، ما يؤشّر على تخلف هذا القطاع في إثيوبيا وليس العكس).

يمكن تلمّس أهم جذور أزمة الدولة الإثيوبية في مسألة "سياسة الأرض" وتطوّراتها، بالنظر إلى عدة اعتبارات أبرزها طبيعة المجتمع الإثيوبي الزراعي - الرعوي

ويمكن تلمّس أهم جذور أزمة الدولة الإثيوبية في مسألة "سياسة الأرض" وتطوّراتها، بالنظر إلى عدة اعتبارات أبرزها طبيعة المجتمع الإثيوبي الزراعي- الرعوي وتجسيدها لطبيعة العلاقات بين "الدولة"/السلطة والمواطنين. وكانت ملكية الأرض في العهد الإمبراطوري (قبل ثورة أكتوبر 1974) بالغة التعقيد على نحو يصعب معه تقديم صورة كاملة لها، إذ كان لإثيوبيا واحدًا من أكثر نظم ملكية الأرض في العالم التباسًا؛ مما قاد إلى صعوبة تحسين نظام إصلاح الأراضي بالبلاد وأثر على إنتاجية الأرض نفسها. ففي عهدي منليك وهيلاسيلاسي ظل نظام الأراضي الإثيوبية إقطاعيًا حيث تركزت ملكية الأرض في يد الإقطاعيين landlords والكنيسة المسيحية الأرثوذوكسية، كما كانت حقوق ملكية الأرض غير آمنة في الغالب بالنظر لاستمرار عمليات الطرد القسرية للمواطنين. وفي تعميم إجرائي بحت، كان هناك، حسب تيشومي سوبوكا Teshome Soboka، في فصل مهم حول سياسة الأراضي الإثيوبية وسلطة الدولة بعد الحرب الباردة (2021)، نمطان لملكية الأرض في الشمال وفي الجنوب، ما يفسّر طبعة الانقسام في الهيمنة لصالح الشمال حتى اللحظة الحالية في إثيوبيا. ففي المناطق الشمالية، مثل غوغام Gojjam والتيغراي، تنوعت نظم ملكية مثل المشاع communal (ريست rist)، وأرض الهبة gult، والملكية الحرّة أو الخاصة gebbar، وأرض الكنيسة samon، ونظم ملكية الدولة "مادريا" maderia. وفيما يتعلق بالنظام المتعلق بعامة الشعب، وهو المشاع "ريست" فإنه حق ادّعاء حصة في الأرض استنادًا لقرابة من جد (من جهة الأبوين) تشترك مع أصحاب أراضي مشاع أخرى، في عملية معقدة للغاية يديرها حكماء هذه المناطق، من دون ضمان استخدام متساوٍ لجميع المزارعين في المنطقة؛ إذ ظل استخدام الفرد الأراضي محدّدا بشكل كبير بمكانته الاجتماعية. بينما منحت حقوق أراضي "الجلت" gult لأفراد من النخبة الحاكمة جائزة لولاءاتهم وللمؤسسات الدينية أوقافا؛ ومنح ملاكها حق جمع الضرائب ممن يزرعونها، وعد نمطا الريست والجلت نمطين متكاملين من ملكية الأراضي. بينما ساد نمط الملكية الخاصة للأراضي في المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية، وكان هو النمط الغالب في إثيوبيا، حيث قدر انتشاره بين أكثر من 60% من فلاحي إثيوبيا وفي مناطق يعيش فيها 65% من سكان إثيوبيا حسب دراسات متعلقة.

الصورة
مزارعون إثيوبيون في قرية قرب مدينة بحر دار في 21/ 6/ 2021 (فرانس برس)
مزارعون إثيوبيون في قرية قرب مدينة بحر دار (21/6/2021/ فرانس برس)

وشهد نظام ملكية الأراضي تحوّلًا جذريًا في العام 1975 بتبنّي نظام "الدرج" Derg سياسة أراضٍ ثورية بالإعلان رقم 31 للعام 1975 (إعلان الملكية العامة للأراضي الريفية) الذي استهدف مصادرة الأراضي الريفية من ملاكها وتقديم استخدام متساوٍ لجميع الفلاحين، ثم منح جمعيات الفلاحين Peasant Associations (PA) سلطات إدارية وقضائية، والحق في تخصيص الأراضي، وأسّست، في ثمانينيات القرن الماضي، منظمات جماعية زراعية، مثل جمعيات الفلاحين المنتجين التعاونية، وبرنامج قروية الريف لحماية الفلاحين أصحاب الملكيات الصغيرة. ووضعت سياسة درج جميع الأراضي الريفية ضمن ملكية الدولة من دون أية تعويضات لأصحاب الحقوق السابقين، وحظرت علاقات المزارعة أو الاستئجار. كما تركزت المزارع الكبيرة المملوكة والمدارة من الدولة (التي شغلت بداية مساحة 70 ألف هكتار ثم وصلت في العام 1987/1988 إلى 216 ألف هكتار، وكان مقرّرًا زيادتها إلى 468 ألف هكتار بحلول العام 1994) في المناطق الجنوبية والغربية مثل أقاليم سيدامو ووليجا Wollega.  

وهكذا كرّست سياسات الأراضي، بشكل عام وموجز هنا، قدرا من استمرار نظم الملكية الموروثة من العهد الإمبراطوري في مناطق الثقل السياسي التقليدية في شمالي إثيوبيا، بينما فرضت "الدولة" حضورها في المناطق الجنوبية والغربية التي ضمت تاريخيًا في مراحل متأخرة لبناء الدولة الإثيوبية؛ ما يشير إلى حجم تمدّد سياسات الاستعمار الداخلي بشكل غير مباشر، حتى في ظل نظام حكم "ثوري" ماركسي، ثم نظام اشتراكي كشف عن صعوبات الانتقال السياسي في إثيوبيا.

الانتقال السياسي في إثيوبيا: مآزق ما بعد الإمبراطورية

يلاحظ بشكل عام تشوّه "الانتقال السياسي" في أرجاء القارّة الأفريقية، سيما أن أغلب الأحزاب السياسية في أفريقيا لم تتشكّل حول برامج سياسية واضحة، لكنها قامت على أساسٍ مما يطلق عليه علاقة "السيد - التابع" patron-client relationship، أو الصلات الشخصية بين القادة والمواطنين، وعلاقات مثل الانتماء العشائري clannishness والجماعة الإثنية - القبلية، والأرض، والدين والمبادئ المشابهة. وتجسّد جمهورية إثيوبيا الفيدرالية التي ظلت تملك أغلبية كبرى من الأحزاب القائمة على أسس إثنية، مثالًا بارزًا على ذلك. وعلى الرغم من أن "تنظيم تسجيل الأحزاب للعام 2008 Regulation on the Registration of Parties (Proc. No. 573/2008) لم يعترف إلا بالأحزاب السياسية القائمة على مستويات قومية أو إقليمية، فإن 70% من الأحزاب المسجّلة بالفعل (حتى العام 2014 على الأقل) كانت بسميّات إثنية، وتشير إلى انتمائها لجماعة لغوية معينة تقيم في إحدى ولايات إثيوبيا. علاوة على ذلك، فإن أحزابا كثيرة مسجلة على أساس قومي لم تخف انتمائها لجماعة إثنية معينة، واستخدامها ذلك الانتماء لحشد السكان وراء أجنداتها السياسية.  

مثّل العام 1991 نقطة تحوّل في النظام السياسي الإثيوبي بعد سنوات طويلة من المركزية

ويمكن تلمّس أزمة هذا الانتقال في حالة الثورة الإثيوبية 1974، حيث شهد الحراك العمالي والطلابي والأهلي ضد قمع نظام هيلاسيلاسي في مرحلة متأخرة من الثورة انضمام قواتٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ، طالما استخدمت لقمع أية تطلّعات شعبية. وكانت أبرز مطالب الثورة مسألة الجنسية nationality، والمساواة الدينية، وإصلاح سياسات الأراضي، وتحسين ظروف العمل وأجور العمال، والإصلاح الدستوري، وإعادة تنظيم الدولة، وعنت هذه المطالب وغيرها وضع نهايةٍ "للوضع القائم" في إثيوبيا، وتولى الجيش الإثيوبي مقاليد الأمور نيابة عن "الحراك الشعبي"، عبر تكوين لجنة "الدرج" Dergue ثم المجلس الإداري العسكري الانتقالي Provisional Military Administrative Council” (PMAC) الذي بادر بتعليق عمل البرلمان والدستور الإمبراطوري. وفي التحليل النهائي للتجربة "الديمقراطية" قبل العام 1991، حسب دراسة وثائقية دقيقة لكاساهون بيرهانو Kassahun Berhanu  عن البرلمان ونظام الهيمنة الحزبية في إثيوبيا (2005)، فإن مؤسسات الحكم الرئيسة بما فيها المجلس التشريعي "الشينجو" Shengo التابع PDRE، ظلت غير فعالة وعاجزة في مواجهة الوجود الطاغي لحزب العمال الإثيوبي Worker’s Party of Ethiopia (WPE) (الذي تكون في العام 1985 كحزب سياسي وحيد بالبلاد)، لاسيما الرجل القوي الذي تصرف كطاغية تقليدي. وفي ضوء هذه الحقيقة قضى برلمان PDRE آخر عهده من دون لعب أي دور قانوني وتشريعي، يذكر في مراقبة الممارسات التنفيذية وانتهاكاتها. وفي غضون الأعوام الثلاثة التي قام فيها المجلس لم يسجل المشرعون (على المستويات القومية والقومية الفرعية) موقفًا واحدًا في مراقبة الأعمال التنفيذية أو انتقادها أو معارضة مشروعات القوانين المقترحة.      

ومثّل العام 1991 نقطة تحوّل في النظام السياسي الإثيوبي بعد سنوات طويلة من المركزية، وبدأت البلاد بعدها مسارها نحو "ديمقراطية تعدّدية" مع إقرار دستور العام 1994 الذي قسّم إثيوبيا إلى أقاليم على أسس إثنية، ودعا إلى انتخابات تعدّدية جرت للمرة الأولى في 1995، فاز بها تحالف الجبهة الديمقراطية الثورية الذي اختار نيغاسو غيدادا Negasso Gidada رئيسًا للبلاد، وميلس زيناوي رئيسًا للوزراء الذي خلفه ديسالين هيلاميريام في 2012، وظل في منصبه حتى استقال منه في فبراير/ شباط 2018 ليخلفه آبي أحمد،في انتقال سياسي حزبي ضيق، لم يشهد أدنى قدر من التشاور الشعبي، بل قرأه بعضهم اختيارا فرض في ظروف غامضة حتى على أعمدة التحالف الحاكم حينذاك.   

آبي أحمد والإثيوبيانية: إعادة استلهام الأوتوقراطية

أعلن آبي أحمد مرارًا تبنّيه مقاربات وحدوية لإعادة أمجاد إثيوبيا كما رآها متجسّدة في فكرته عن "الإثيوبيانية" Ethiopianism، متجاوزًا حقيقة تكون هذه الفكرة على "أنقاض" تهميش إثني وسياسي وديني واقتصادي لجماعات "إثيوبية" شتى، سيما في المناطق الجنوبية والغربية من إثيوبيا الحالية، وبما يتفق مع الخطوط الاقتصادية والسياسية التي عرضت أعلاه. وانطلاقًا من مقاربة هذه الفكرة المغلوطة، تكشف الأزمة الحالية عن تداعيات أزمة "دولة ما بعد الاستعمار" وتقاطعها مع التجربة الإثيوبية بشكل ملفت للغاية. ووفق ما لاحظه بغورن بيكمان Bjorn Beckman في مقال حول دولة ما بعد الاستعمار (1988) وجود أوجه قصورٍ ثلاثة في مقاربات دولة ما بعد الاستعمار في أفريقيا، أولها الفشل في التعامل الجدّي مع الطبقات الحاكمة، بما فيها قاعدتها المادّية المتسعة والتزاماتها الأيديولوجية (النزعة القومية)، وسبل تكوينهم "المؤسسات الطبقية"؛ التقليل الكلي من شأن العامل الخارجي في عمليات تكوين الدولة والطبقة الحاكمة. كما رأى بيكمان وجوب النظر إلى دولة ما بعد الاستعمار أنها مشروع "عابر للحدود الوطنية" transnational project. وثالث أوجه القصور هذه وجود قصدٍ لتجاهل التجربة التنظيمية النامية للطبقات التابعة، وقدرتها على فرض نفسها على إدارة سلطة الدولة.

الصورة
أبي أحمد
رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد خلال حفل توقيع اتفاقية ترخيص الاتصالات الإثيوبية في أديس أبابا (8/6/2021/ فرانس برس)

ويمكن بلورة جانبٍ من هذه الفكرة المهمة، والتي يتم تجاهلها في التناول الحالي للأزمة الإثيوبية بشكل كبير، في تأثير السياسة الخارجية الأميركية تجاه النخب الإثيوبية الحاكمة التي مكّنت الأخيرة من الاستغلال الاقتصادي والقمع السياسي المنتظم والمنهجي لجماعات بحجم الأورومو (في كشف لدلالة فكرة الإثيوبيانية تاريخيًا)، وإن لوحظ المسار نفسه تقريبًا وبدرجاتٍ مقاربةٍ من الدول الغربية ودول الكتلة الشرقية وتمييزاتها المستمرة ضد الأورومو وبقية الشعوب المستعمرة الأخرى "داخل إثيوبيا الحالية" في التعاملات الدولية مع أديس أبابا، والتي تفادت، بشكل واضح، أي تناول نقدي لمشكلات الأورومو (على سبيل المثال) عبر قبول معلوماتٍ مغلوطةٍ ورفض أية أفكار تتعلق إما بضرورة تبنّي "سياسة ديمقراطية"  أو التوصل إلى حلول للتناقضات بين الأورومو والأحباش (الأمهرا والتيغراي معًا بحكم الحدود الجغرافية للهضبة الحبشية تاريخيًا).  

أعلن آبي أحمد مرارًا تبنّيه مقاربات وحدوية لإعادة أمجاد إثيوبيا متجاوزًا حقيقة تكون هذه الفكرة على "أنقاض" تهميش إثني وسياسي وديني واقتصادي لجماعات "إثيوبية" شتى

كما لم ينجح آبي أحمد وفكرته تلك في تفكيك الصلة القائمة بين الدولة والأيديولوجيا "المسيحية" الضيقة، كما تتجسّد في "الإثيوبيانية"، وموقع جماعات كبيرة غير مسيحية في هذه الأفكار. ففي تقديمه عمله البارز والفريد حول فهم الدين والتغير الاجتماعي في إثيوبيا (2012)، يكشف محمد جيرما M. Girma عن مفارقةٍ مهمةٍ في علاقة الدين بالدولة في إثيوبيا، ترتكز على منطقية هذه العلاقة ووثاقتها في العهد الإمبراطوري، حيث ظلّ الدين المسيحي مكونًا رئيسًا في بنية نظام الحكم، بينما ظلت تجربتا "الدرج" (النسخة الإثيوبية من الماركسية) والجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية (يمكن وصفها بأنها نظام فيدرالي - إثني استلهم بداية من "الاشتراكية الألبانية") تميز بشكل واضح، وفق دستوري النظامين،  بين الدولة والدين، غير أن هذه الخلاصة "النظرية" لا تأخذ في اعتبارها المأزق الوجودي الذي مرّت به إثيوبيا مع بداية القرن العشرين، والذي يمكن تلخيصه في صراع مجتمع عتيق ضد دولة جديدة (توسّعية بالأساس وقائمة على ضم أراضٍ مجاورة للهضبة الحبشية في إقليمي التيغراي والأمهرا الحاليين)، وتوصل إلى خلاصة دالة، أن فرضية تحرّر إثيوبيا (في عهدي درج والجبهة) من كينونتها الدينية لم تتجسّد إلا في الدولة وليس المجتمع، وأن جهود "العلمنة" التي قام بها النظامان ظلت بعيدة عن التجذّر في التربة الإثيوبية. وتمكن المفارقة هنا في أن مساعي آبي أحمد قادت، في واقع الأمر، إلى إعادة إنتاج هذا الصراع الدولتي - المجتمعي وتشابكاته بمستويات جديدة

إثيوبيا "وإعادة تشكيل" القرن الأفريقي

لا يخفى أن إقليم القرن الأفريقي، تمامًا كإقليم الشرق الأوسط، كما يلاحظ الدبلوماسي الأميركي بول ب. هينزي P. B. Henze في كتابه القرن الأفريقي من الحرب للسلام (1991)، من أكثر الأقاليم في العالم ارتهانًا بالتاريخ، وأن أحداث التاريخ القديم والوسيط (حسب ملاحظاته عن كثب بحكم عمله في المنطقة)، عوضًا عن العصر الحديث، لا تزال محل نقاشاتٍ مستمرّة بين الساسة (كما تردّد في خطاب آبي أحمد بشكل ملفت) والمجموعات الدينية والإثنية، وحتى الأفراد العاديين في المنطقة، كما تداخل التاريخ والدين في الشأن السياسي، مع استمرار تركز التعليم الرسمي في الإقليم حتى وقت قريب في مؤسستي الكنيسة والمسجد. ويتسق هذ التفسير تمامًا مع طرح الأنثروبولوجي البارز في شؤون القرن الأفريقي يوان ميردين لويس Ioan Myrddin Lewis (في كتابه حول التاريخ الحديث لأرض الصومال، 1965) أن الإسلام كان "القوة الموحّدة التي لعبت دورًا بالغ الأهمية في غزو الحبشة في القرن السادس عشر، ولا يزال حيًا بين الصوماليين والكثير من شعوب "إثيوبيا الحالية"." وقد علّق الأورومو (الغالا Gallas) في حروب بناة الإمبراطورية من المسيحيين والمسلمين. ويؤكّد داريل بيتس D. Bates (في دراسته المهمة حول المسألة الحبشية وحملة ماجدالا 1867-1868، 1979) مراقبة الأورومو في المرتفعات الجنوبية والغربية هذا الصراع باهتمامٍ بالغ، وأنهم ذاقوا الأمرّين منه، ولطالما ترقبوا نتيجة الصراع لاستعادة أراضيهم المنتزعة منهم. واستمرّت الصراعات بين الأحباش والأورومو من القرن السادس عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر، عندما احتل الأحباش أراضي الأورومو بمساعدة الاستعمار الأوروبي.

توضح القراءة التاريخية لجذور أزمة الدولة الأفريقية وحالتها الإثيوبية الحالية أن الوضع الراهن بقيادة رئيس الوزراء، آبي أحمد، يعيد إنتاج جذور هذه الأزمة

كما لخّص هاغاي إلريك Haggai Elrich، في تناول مهم بعنوان "الإسلام والحرب والسلام في القرن الأفريقي" (2013) فكرة مهمة، مفادها بأن متابعة تاريخ العلاقات السياسية الإسلامية - المسيحية في القرن الأفريقي تقود حتمًا إلى التركيز على حقبتين، أولهما 1880-1920 التي مر خلالها الصومال والسودان بإحياء "الإسلام السياسي"، في وقتٍ أخذت فيه "إثيوبيا" (الحبشة المسيحية) في التوسع بدافع من نزعتها القومية المسيحية. وتأثرت الأحداث في تلك الفترة، حسب إلريك، بتباين المفاهيم الإسلامية وبمواقف مختلفة عديدة للمسيحيين المحليين إزاء الإسلام والمسلمين. أما الفترة الثانية فإن مدارها حول المثلث الصومالي- الإثيوبي- السوداني نفسه عند مطلع تسعينيات القرن العشرين حتى الوقت الراهن (مطلع العقد الثاني من الألفية الحالية) وهي فترة تميزت بإعادة تفعيل الإسلام هوية سياسية في السودان والصومال، وإحياء الدين عامل سياسي في إثيوبيا، سيما في فترة التدخل الإثيوبي العسكري في الصومال 2006-2009.    

خلاصة

توضح القراءة التاريخية لجذور أزمة الدولة الأفريقية وحالتها الإثيوبية الحالية أن الوضع الراهن بقيادة رئيس الوزراء، آبي أحمد، يعيد إنتاج جذور هذه الأزمة على نحوٍ يثير الدهشة، مضافًا إليه تصميم دؤوب من النخبة السياسية الحاكمة على إنكار خطورة استدعاء هذه التجارب التاريخية، بدلًا من الدفع بمشروع توافق وطني، يعالج التهميش التاريخي والسياسي والاقتصادي، وربما الديني الذي عانت منه مجموعات كبيرة من الإثنيات المكونة لدولة إثيوبيا الحالية، ودفع مشروع الدولة الوطنية بدلًا من إعادة إنتاج نظم إثنية – دينية، استنادًا لهيمنة وتصورات تاريخية منذ نهاية القرن التاسع عشر، ربما تقود إلى تفجّر الأوضاع في إقليم القرن الأفريقي، حسبما تؤشّر له أنباء توغل جماعة "شباب المجاهدين" الصومالية في الأراضي الإثيوبية قبل نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، وما يعنيه ذلك (بغض النظر عن دوافعه) من احتمالات تجدّد الانقسامات والصراعات التقليدية في الإقليم.