الاستبداد من منظور آخر

الاستبداد من منظور آخر

29 يناير 2022
+ الخط -

يتناول المقال الاستبداد من منظور آخر، أي ليس من منظور الحكم والاستلاء على السلطة، أو حتى ذلك الاستبداد السياسي الذي يكون من أعلى الهرم إلى أسفله، وإنما يرتكز الحديث على ما يمكن أن يُطلق عليه "الاستبداد المجتمعي"، والذي ينطلق من القاعدة المجتمعية أو الشعبية في التأسيس له، ومن ثمَّ يكون أمراً واقعاً يتعامل معه الحُكّام في تكوين الاستبداد التقليدي والسيطرة به على الحكم، ومفاصل الدولة، واقتياد الشعوب المنشئة له.

الاستبداد الاجتماعي بمنظوره العام هو استغلال (أو تحكّم) فئة مجتمعية من الشعب لفئة أخرى، بحيث يُقسّم المجتمع على هذا المقتضى، ومن ثَمَّ تتقلص هذه "الفئة المستبدّة" إلى أن تصل إلى أحادية الرأس، وتلغي ما كان معها، وتتكون بذلك الاستبدادية الحاكمة التقليدية المتمثلة في الفرد أو حتى العائلة الحاكمة، والتي عادةً ما يكون أساسها (ونشأتها) مرتبطاً بالفقر أو الطبقية، في المجتمع، فيتولد على إثرها الاستبداد المؤسساتي، أو حتى الاستبداد القانوني الممنهج المرتبط بالحياة اليومية والواجبات والحقوق، عبر عوامل متعدّدة، اقتصادية وفكرية، وحتى تربوية، لتكون إلزامية بناء نظام أخلاقي تربوي يقف أمام الاستبداد المجتمعي الأساس والفيصل في أوساط المجتمع، للحدّ من هذه الظاهرة، كما يذهب إلى ذلك الكواكبي في "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".

إذا ما انتشر العلم والمعرفة، فإن الشعوب تكتسب حينئذ الجرأة على القيام بالثورات والمطالبة بحقوقها

افترض الكواكبي في هذا الشأن والنوع من الاستبداد أن أساس قوامه هو العامل الاجتماعي الذي كان نواة تكوين المستبد الحاكم من الناحية التربوية الاجتماعية، فيقول: "المستبدّون يتولاهم مستبد، والأحرار يتولاهم الأحرار". وبمعنى آخر، يمكن فهم المقصود والمراد بأن الظواهر الاجتماعية في مجتمعٍ ما هي التي تحدّد النمط السياسي السائد في البلاد بطريقة أو أخرى، لتكون النتيجة حُكماً استبدادياً أو غيره.

وفي المقابل، النموذج المثالي للتخلص من "الاستبداد المجتمعي" الذي يقود، حتماً، إلى الاستبداد السياسي والاقتصادي، وحتى الفكري، هو العلم، سواء من علوم الحياة "مثل الحكمة النظرية أو الفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبّر النفوس وتوسّع العقول، وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه، وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ"، وما إلى ذلك من العلوم والطرق التي تجعل من الإنسان عامل بناء في محيطه، ومن ثمَّ مجتمعه، وكذلك دولته، بحيث لا يمكن الاكتفاء بالتخلص من الاستبداد وغياب العوامل التي تمنع عودته.

يجب العمل على منع الاستبداد المجتمعي، والذي بنجاحه ستنجح المجتمعات في التغلب على الاستبدادين، السياسي والسلطوي، الحاكمين لها

يتّضح مما سبق بأن حقيقة الاستبداد المجتمعي تكون في غياب العلم، وعدم معرفة الواجبات والحقوق، حيث إنه كلما كان الجهل عند العوام وعامة الشعب يولّد عندهم الخوف الذي يقود إلى الاستسلام للمستبد، بعكس إذا ما انتشر العلم والمعرفة، فإن الشعوب تكتسب حينئذ الجرأة على القيام بالثورات والمطالبة بحقوقها، الأمر الذي يكون مصدر قلقٍ وخوفٍ عند السلطة "المستبدّة منها أو غير المستبدّة". وبالتالي، لا يمكن أن يستقر الاستبداد، إن وجد، في هذا النظام أو ذاك، بناء على المعطيات المعرفية، والمطالبة الحقوقية التي اكتسبتها الشعوب علماً ومعرفة.

ليست هذه النظرة إلى الاستبداد الاجتماعي وليدة اليوم، بل هي نظرةٌ خاض فيها كثيرون من أصحاب الفكر والرأي في محاولة منهم للمقاربة والفهم، من حيث النشأة والتكوين، ومن ثم المعالجة، بحيث لا تتكرّر مآلاتها السيئة على الشعوب التي تطالب بحقوقها، كما أن هذه النظرة، من جهة أخرى، وإن كانت هي لبُّ تكوين الاستبداد السياسي والسلطة الحاكمة في بلدانٍ كثيرة، إلا أنها لا تجد، في الوقت الحالي والمعاصر، من يشخّصها التشخيص الطبيعي والسليم، بل الجُلّ يتجه إلى الاستبداد السلطوي في التقييم، وكذلك التخلص منه، في حين بات من الضروري اليوم الاتجاه نحو التقييم الداخلي للاستبداد المجتمعي وإيجاد طرق وبدائل تمنع من انتشاره في المجتمع، خصوصاً بعد الثورات العربية وتعثرها في بعض من البلدان، الأمر الذي يتطلّب العمل على منع الاستبداد المجتمعي، والذي بنجاحه ستنجح المجتمعات في التغلب على الاستبدادين، السياسي والسلطوي، الحاكمين لها.