إعدام السيسي معارضيه .. بدء انتحاره السياسي

إعدام السيسي معارضيه .. بدء انتحاره السياسي

13 أكتوبر 2020
+ الخط -

يراكم نظام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الأخطاء التي يبدو أنه يصرّ على ارتكابها، ما دام أنه في منأى عن أي محاسبةٍ، سواء أتت من داخل البلاد أو من خارجها. وبينما هو لا يزال منهمكاً بالمجزرة المتواصلة منذ نهاية شهر أغسطس/ آب الماضي، بحق الحجَر عبر هدم المنازل في المخالفات وتهجير سكانها، ارتكب مجزرةً أخرى، لكنها مجزرة حقيقية بحق البشر، حين أعدم، قبل أيامٍ، في ليلةٍ واحدةٍ، 15 شخصاً من المتهمين بمعارضة نظامه. وإذ يمكن لأبناء الشعب السكوت عن غلاء أسعار المواد الأساسية والبطالة وتقنين الكهرباء والماء وتقليص حجم الرغيف، إلا أن تدمير منازل الملايين من المواطنين والإعدامات بغير وجه حقٍّ، قد يصبحان بمثابة المسمار الأخير الذي يدقّه السيسي في نعش نظامه، والتمهيد لانتحاره سياسياً، لأنه أيقظ من كان لامبالياً تجاه ممارساته، بل وكثيرين ممن صنفوا ضمن ما يسمى "حزب الكنبة".
ليست ممارسات السيسي، المتواصلة منذ وصوله إلى السلطة، إلا تبدِّياً للهذر السياسي الدائم الذي يمارسه أمام رهطٍ من المصفقين الناعسين الذين لا يملكون سوى إيماءة الرأس، موافقةً على كل ما يخرج من فمه من مغالطاتٍ، تحملها لغة الشوارع التي يتقنها بجدارةٍ. ومن المرجّح أن هذا الرئيس الفاقد أي مشروع لمستقبل بلاده وأبناء شعبه، والذي قطع مع مشكلات بلاده، يعتمد على توارد الأفكار التي تأتيه في جلساته تلك، لكي يخرج بقرارٍ ما أو يعطي الأوامر باتباع سياسةٍ ما، وهي في مجملها قرارات وسياسات لا تحمل سوى الضرر بأبناء الشعب المصري. والتسبب بالضرر هذا الذي لا يتقن سواه، يظهر واضحاً في تدهور اقتصاد البلاد وإفقار المواطنين، وتغييب المعارضين في المعتقلات المكتظة، أو قتلهم في الشوارع، ومصادرة حرية الصحافة واعتقال الصحافيين، علاوة على التهاون، من خلال التفريط بحقوق البلاد عبر منح أراضيها وجزرها ومياهها الإقليمية للآخرين، والسماح لهم بحبس مياه نيلها عن الأجيال المقبلة، إضافة إلى تسليم قرار البلاد لزعماء دول أخرى، لتجيير موقفها في تأييد مغامراتهم العسكرية في ليبيا واليمن.

هدم منازل المواطنين الآمنين، وإعدام 15 شخصاً، تدلّ على أنه قد مشى في هذا الطريق إلى هذا الانتحار، لأنه بات ينتقل من فشلٍ إلى آخر

إذا لم تكن هذه الوقائع لتُظهر الرجل وقد مشى في مسار الإنتحار السياسي، فإن ممارساته أخيرا، في هدم منازل المواطنين الآمنين، وإعدام 15 شخصاً، تدلّ على أنه قد مشى في هذا الطريق إلى هذا الإنتحار، لأنه بات ينتقل من فشلٍ إلى آخر، فبالنظر إلى ردود الفعل على الممارسات الأخيرة، وخروج المواطنين في مظاهراتٍ عفويةٍ في مناطق لم تخرج منها احتجاجاتٌ سابقة، ومشاركة أناسٍ فيها كانوا سابقاً مصنفين من غير المبالين، يمكن معرفة مدى الرفض الذي أصبح الشعب يقابل فيه سياسة الرجل. فقد خرج أخيراً صوت من كانوا يصنفون ضمن ما عرف باسم "حزب الكنبة"، تلك الأغلبية الصامتة التي اختارت الجلوس على الكنبة ومراقبة ما يحصل حولها عبر شاشة التلفزيون من دون أن تحرّك ساكناً، هذه الأغلبية أجبرتها ممارسات النظام أخيرا على الكلام، بل وعلى الاحتجاج في المظاهرات التي تحصل كل يوم في مصر. كما أن هنالك من المواطنين من كان لا يأبه لتغوُّل العسكر في أجهزة الدولة، علَّق على مواقع التواصل الإجتماعي قائلاً: "قضى السيسي على حكم العسكر تماماً .. والانفجار أصبح مسألة وقت".
أما أن ينفذ نظامه حكم الإعدام بحق 15 مواطناً دفعةً واحدةً فهي جريمةٌ موصوفةٌ، ومجزرةً يفكر أي طاغية، مهما بلغت درجة جوره، كثيراً قبل أن يُقدم على ارتكابها. غير أن السيسي رأى لامبالاة كبيرة لدى أهله تجاه هذه الأفعال، ورأى إشاحة الغرب الذي نصَّب نفسه مدافعاً عن حقوق الإنسان، وجهه عن فظائعها. وقد ثبت أن هذا الغرب لا يأبه لحقوق الإنسان في دول العالم الثالث، ما دام الطغاة الذين يتعامل معهم يشترون أسلحته الكاسدة فيزدادون جوراً. وبلغ نظام السيسي درجةً في استهتاره بحياة البشر أنه لم يبلغ أهالي المحكوم عليهم بالإعدام بتاريخ تنفيذ الحكم لكي يتسنى لهم وداع أحبتهم، بل غالى في جرمه، حين أرسل في طلبهم لاستلام جثث المعدومين، وهي تعدُّ تحدّياً لحرمة أجساد هؤلاء، ولكل مصري يمكن أن يكون مكان المقتولين أو أهلهم.

أن ينفذ حكم الإعدام بحق 15 مواطناً دفعةً واحدةً فهي جريمةٌ موصوفةٌ يفكر أي طاغية، مهما بلغت درجة جوره، كثيراً قبل أن يُقدم على ارتكابها

ولا يهتم عبد الفتاح السيسي ونظامه بأي رد فعلٍ تجاه ممارساته، فهو حكم على ملايين من أبناء الشعب المصري بالتشرّد، قبل تنفيذ حكم الإعدام هذا، حين قرّر البدء بهدم المساكن المخالفة أو المقامة على الأراضي الزراعية، بحجّة عدم مصالحة أصحابها مع الجهات المختصة ودفع الغرامات التي لا قدرة لهم على دفعها. وإن كانت الإعدامات حكماً بقتل أولئك الضحايا، فإن قرارات الهدم تعد حكما بقتل ملايين الآمنين في بيوت شيدوها بالعرق والجوع. وكما أن سياسات السيسي جلبت له معارضين ساقهم إلى ساحات الإعدام، فإن فساد أزلام نظامه أدّت إلى إفراز هذه المخالفات. إذ لا يمكن تفسير هذا العدد الكبير من الأبنية المخالفة التي ازدادت لتصبح قرى وأحياءً كاملة مخالفة إلا بسبب فساد الإدارات المحلية التي سمح موظفوها للمواطنين بالبناء من دون تراخيص أو البناء على الأراضي الزراعية مقابل رشاوٍ، ثم حين قبضوا وأداروا ظهورهم أتت أجهزة الدولة لتحاسب أصحاب الأبنية عبر تهديمها، وتركت الفاسدين الذي سبّبوا موجة البناء المخالف.

لا يهتم السيسي ونظامه بأي رد فعلٍ تجاه ممارساته، فهو حكم على ملايين من أبناء الشعب المصري بالتشرّد، قبل تنفيذ حكم الإعدام هذا

كذلك تتحمّل الدولة المسؤولية بسبب عدم تنظيمها المناطق التي تشهد موجة بناء مخالف، أم أنها لم تلاحظ تلك الموجة من المخالفات منذ البداية، والتي سمحت بإحداث مليونين وثمانمائة ألف مبنى مخالف تضم 20 مليون مسكن ومحل تجاري. كما لم يلاحظ السيسي نفسه ذلك كله من قبل، ولم يدرِ من سمح به، على الرغم من أنه بدا على علمٍ بها كلها، حين قال في اجتماع في الإسكندرية، نهاية أغسطس/ آب الماضي: "عندنا علوم وتكنولوجيا يخلينا نشوف شكل الدولة المصرية من 10 سنين بالمللي.. لدينا منظومة قادرة على متابعة التطورات الخاصة بمخالفات البناء والتعدّيات على مستوى الجمهورية". وقد استخدم كلمة "إبادة"، حين قال: "أشيل كل الكلام ده (يقصد المخالفات) في كل القرى وأبيد بكل المعدات الهندسية"، للتعبير عن نيته هدم المنازل وعدم اعتباره المواطنين بشراً، بل ربما أشياء أو حتى كائنات من الأفضل إبادتها إذا ما خالفت.
يعرف المواطنون أن للهدم غاية خبيثة مبيَّتة، إذ أدركوا أن البيوت المهدَّمة سوف تؤول إلى مستثمرين لهم ارتباطاتٌ بالسلطة ورموزها، ليبنوا عليها عماراتٍ ويعيدوا بيعها، ربما لأصحابها، ولغيرهم من القادرين على الشراء، فهدم الأبنية التي قامت على أراضٍ زراعيةٍ لن يعيد الأرض زراعيةً مرة أخرى. وشيئاً فشيئاً، تُظهر الدولة وجهها العدواني السافر، حين تعتدي على المواطنين، وعلى حياتهم وأمنهم الشخصي ومعيشتهم، عندما تخرجهم من منازلهم وتهدمها وتتركهم في الطرقات، من دون أن تؤمن لهم البديل، بدلاً من القيام بدورها دولةً يناط بها حماية موطنيها وإبعادهم عن مصادر التهديد وتأمين العيش الكريم لهم. 
لم يكتفِ السيسي بكيِّ أبناء شعبه بنار الأسعار، ومنها أخيراً أسعار تذاكر النقل العام. كما لم يكتف بتجويع كثيرين منهم، حين خفَّض وزن رغيف الخبز الذي بات وجبةً أساسيةً لكثيرين من فقراء البلاد. لم يكتف بذلك الذي يضاف إلى الأزمة التي يعيشها الشعب منذ تولّي السيسي الحكم، والتي ظهرت بنسبة التضخم وأزمة السكن وغلاء الوقود، وغيرها من الأعباء التي يتحمّلها المواطن. لم يكتف بذلك كله، فأراد جعل الشعب يهيم على وجهه في جهات الأرض الأربع، ويعدم ما يراه من مصريين ليخيف من قد يدفعه الألم إلى رفع صوته، غير أن هذه الممارسات تزيد التوقع بأن يكون من سيخلع السيسي من خارج الدوائر التي كان يتحسَّبها ويقتل أشخاصها.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.