أي دلالات للإفراج عن موقوفين سياسيين في تونس؟

أي دلالات للإفراج عن موقوفين سياسيين في تونس؟

17 يوليو 2023

صورة لمعتقلين سياسيين يرفعها في العاصمة تونس أنصار لجبهة الخلاص الوطني (29/4/2023/Getty)

+ الخط -

بعد حملة الاعتقالات المكثفة التي طاولت قيادات سياسية عديدة، تابع الرأي العام سلسلة المحاكمات المعقدة، بدءاً من الاستنطاق والتحقيق، إلخ. التهم الموجّهة غير مسبوقة حتى مع عهد بن علي. يستعمل القضاء في تونس تهمة المؤامرة، ويوجّهها إلى كل من انخرط في مشاورات سياسية من أجل التفكير في معارضة النظام والبحث عن بدائل ممكنة. وجهت إلى جل الموقوفين حالياً تهمة التآمر، علاوة على عشرات التهم الأخرى التي تصوّر البلاد كأنها في حربٍ أهلية، تتوزع فيها القيادات السياسية إلى خنادق قتال، يبحث عن حشد قوى داخلية خارجية من أجل هزم الخصم.
يُنكر النظام أن هذه القيادات تُعارضه علناً، وأنها تتحرّك على مرأى ومسمع الجميع. ومع ذلك تُوجَّه تهم التآمر على أمن الدولة لهم. لا ينكر هؤلاء أنهم يجتمعون في الفضاءات العامة: مقاهٍ ونوادٍ وجمعيات أحزاب، وحتى في فضاءات خاصة: منازلهم من أجل التداول في الشأن السياسي، ورسم خططٍ تمكّن البلاد من تجاوز الأزمة السياسية الحادّة التي وضعها فيه الانقلاب.

لا يشذ النظام عن بقية الشعبويات التسلطية التي تلهب المشاعر العامة، وتعوّض التفكير العقلاني الرصين بالأهواء التي تلامس قاع الغرائز

كانت سلسلة الإيقافات التي طاولت هؤلاء مرفوقة بحملة ترويعٍ لا تخلو من استعراضٍ ظاهر، عبرت عنها قوافل العربات الأمنية والعدد الكبير لرجال الأمن بأزيائهم المختلفة، فضلاً عن طريقة الإيقاف بالتطويقات والمداهمات واقتياد الموقوفين إلى جهات غير معلومة، ولو لبعض الوقت. كانت حكاية الرسائل التي أراد أصحابها أن تصل إلى قيادات جبهة الخلاص الوطني واضحة، ومن فكّر في الاقتراب منها، فضلاً عن الرأي العام الداخلي والخارجي: لن يسمح النظام بأن تتجاوز قيادات المعارضة مجرّد الإعلانات وأشكال التعبير عن المعارضة السياسية لما جرى ويجري. أما مجرّد التفكير في بدائل، حتى ولو كانت مدنية سلمية، فإنها ستُعَدّ جريمة كبرى حدّد لها النظام تهمة جاهزة، هي التآمر على أمن الدولة، وقد رافقتها عشرات التهم الأخرى التي تتفرّع منها، على غرار التخابر مع جهات أجنبية وتكوين وفاق إجرامي والعمل على تغيير هيئة الدولة، إلخ.
لا أحد يعلم الأسباب الحقيقية التي دفعت النظام إلى الإقدام على تلك الحملة الكثيفة، وسكّ مناخ من الدعاية التي انطلقت من أجهزة الإعلام الرسمية وأنصار النظام وحلفائه الذين استطاعوا في شبه مقاطعة تامة للانتخابات التشريعية أن يشكّلوا مجلس نواب، يرفض الدستور الجديد أن يمنحه صفة سلطة تشريعية، بل يُبقيه مجرّد وظيفة تشريعية وحسب. كان هؤلاء يُقادون إلى السجون في مناخ من الشماتة التي أفلح النظام في أنّ ثقافةً توجّه الناس وتصوغ مواقفهم. لا يشذ النظام عن بقية الشعبويات التسلطية التي تلهب المشاعر العامة، وتعوّض التفكير العقلاني الرصين بالأهواء التي تلامس قاع الغرائز. لقد وقفنا على مثل هذه الحالات، حين انطلقت أزمة المهاجرين القادمين من بلدان جنوب الصحراء إلى حد أن بعضهم لم يصدّق أن هذه البلاد عرفت ثورة كانت عناوينها الكبرى تدور حول الحرية والكرامة.

أراد النظام أن يؤكّد مرّة أخرى أنه اللاعب الأوحد في الساحة السياسية

والأرجح أن النظام عمد إلى ذلك كله، وبهذا الأسلوب تحديداً، لثلاثة أهداف، يبدو أنه أدركها، ولو جزئياً، في هذه الأشهر التي انقضت بعد سلسلة تلك الإيقافات. أولها، منع أي تقاربٍ ممكنٍ بين جبهة الخلاص الوطني وبعض الزعامات السياسية الأخرى التي نسّقت جملة من اللقاءات الميدانية المشتركة في مناسبات عديدة. فقد اقتربت، على سبيل المثال، بعض قادة الجبهة الخماسية، غازي الشواشي وعصام الشابي، وشخصيات مستقلة أخرى، منها المحامي لزهر العكرمي وخيام التركي وعبد الحميد الجلاصي، من جبهة الخلاص، من أجل التفكير في كيفية تصعيد مقاومة الانقلاب، ضمن جبهة واسعة وعريضة. ومع تلك الإيقافات، جرى عملياً إجهاض التقارب، وغيّر الجميع أهدافهم. لم يعد التصدّي للانقلاب هو الهدف، بل إطلاق سراح الموقوفين، ما يعني ضمنيّاً العودة إلى مربّع حقوقي سياسي بدرجة أولى. الهدف الثاني، تحوّل وجه المطالب المشار إليها من مطالب سياسية تحرص على أن يكون وقف الانقلاب سقفها إلى إطلاق سراح الموقوفين ضمن مطلبية سياسية دنيا. وأخيراً، أراد النظام أن يؤكّد مرّة أخرى أنه اللاعب الأوحد في الساحة السياسية، ولا يسمح مطلقاً بتجاوز الخطوط الحمر التي وضعها، وتحديداً تلك التي تعلقت بالبحث عن بديل له، حتى ولو ضمن نضال مدني سلمي.
حين استتبّ للنظام ما أراد، تفرّغ تماماً لترتيبات ما بعد انتهاء عهدته الرئاسية في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، والاستعداد للثانية. رغم أن للرئيس قراءة أخرى مختلفة تماماً. فرضيّتان يمكن أن تضيئا لنا خلفيات إطلاق سراح بعض الموقوفين، وهي لا تخرج عن احتمالين: أولهما إما أن القضاء يتعافى ويستعيد استقلاليته بعد حملة الترويع التي طاولته، وإما أن هذا مجرّد تنفيس عمد إليه النظام من أجل الذهاب إلى عهدة ثانيةٍ رئاسيةٍ، في مناخ أقلّ توتراً، حسب تقديراته.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.