أي أميركا نستيقظ عليها الأربعاء؟

أي أميركا نستيقظ عليها الأربعاء؟

30 أكتوبر 2020
+ الخط -

أربعة أيام فقط تفصلنا عن الانتخابات الأميركية العامة، وكل الأنظار مسلطة على الشق الرئاسي منها. يترقب الأميركيون بقلق شديد ما قد يحمله ذلك اليوم لهم ولبلادهم، وما سيلحقه من تبعات، ويتوجسون من عنف وفوضى وصدامات دموية إن خسر دونالد ترامب الانتخابات، ورفض الاعتراف بالنتيجة، وقد لمّح إلى هذا مرارًا. ومن ثمَّ فقد تمسي الولايات المتحدة يوم الثلاثاء المقبل وتصبح يوم الأربعاء على واقع جديد ومشهد ملبد باللايقين، يقود إلى أزمة دستورية غير مسبوقة في ظل وجود رئيس شعبوي، أناني وانتهازي، لا يهمه مصير البلاد ولا العباد، ويتمتع بدعم غير محدود من قاعدة انتخابية صلبة وكبيرة، وتواطؤ من حزبه الجمهوري الذي يتصرّف كحزب سلطة عالمثالثي.

الأخطر أن مليشيات بيضاء عنصرية إرهابية تتأهب وتنتظر من ترامب إشارة نشر الرعب والقتل والخراب، وهو أمر لم يسع هذا الأخير إلى إخفائه عندما خاطب إحدى مجموعاتهم العُنْفِيَّةِ المتطرّفة في المناظرة الرئاسية في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول): "أيها الأولاد الفخورون، تراجعوا وانتظروا"! "الأولاد الفخورون" هي ترجمة حرفية لاسم منظمة Proud Boys باللغة الإنكليزية. ولا يتوقف ترامب عن التشكيك في نتيجة الانتخابات، حتى قبل بدء الاقتراع الرسمي، فبالنسبة إليه يعدّ التصويت عبر البريد تزويراً إذا جاء في غير صالحه، ويهدّد بأنه لن يعترف به، على الرغم من أن كل الدراسات المحايدة تؤكد أن العبث ببطاقات الاقتراع البريدية أمر شبه مستحيل، وهو ما يؤيده مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي). 

تؤكد نماذج التنبؤ الانتخابي ذات المصداقية العالية أن المرشح الديمقراطي جو بايدن هو الأكثر حظاً للفوز فيها، وهذا يسبب القلق!

ومما يفاقم القلق الأميركي العام مما قد يحمله يوم الانتخابات والأيام التي تليه أن كل نماذج التنبؤ الانتخابي ذات المصداقية العالية تؤكد أن المرشح الديمقراطي جو بايدن هو الأكثر حظاً للفوز فيها، وبفارق كبير. هذا لا يعني حتمية الانتصار طبعاً، ولنا في انتخابات عام 2016 عبرة، ولكنها تزيد من شراسة ترامب، وتشكيكه في مشروعية الانتخاب عبر البريد ونزاهتها وذلك تهيئة لرفضها، وبالتالي توتير الأجواء في البلاد، وربما دفعها حتى حافة الهاوية، كما يؤكد الصحافي الأميركي توماس فريدمان، الذي يحذر من حرب أهلية أميركية مقبلة. 

لا يستبعد أن نصل إلى 20 يناير ويكون عندنا فراغ في السلطة، خصوصاً إذا رفضت الأغلبية الديمقراطية المتوقعة في مجلس النواب المقبل الاجتماع للتصويت على شخص الرئيس

أشك في مسألة الحرب الأهلية، وإنْ كنت لا أستبعد عنفاً وصدامات دموية في حال فاز بايدن وخسر ترامب بهامش ضئيل، ولكن هذا لا يقلل من خطورة الأمر، ولا يستبعد أن نصل إلى يوم العشرين من شهر يناير/ كانون الثاني 2021، ويكون عندنا فراغ في السلطة، خصوصاً إذا رفضت الأغلبية الديمقراطية المتوقعة في مجلس النواب المقبل الاجتماع للتصويت على شخص الرئيس، إذا لم تكن لديهم أغلبية عددية عن أغلب الولايات الخمسين. وحسب التعديل الدستوري الثاني عشر، فإنه في حال فشل المرشحون للرئاسة في الحصول على 270 صوتاً في "المجمع الانتخابي"، عندها يكون لمجلس النواب حق تعيين الرئيس. المشكلة أن التصويت لا يكون على أساس فردي، وإنما يصوّت نواب كل ولاية من الولايات الخمسين ككتلة واحدة لأحد المرشحين الحاصلين على أعلى الأصوات، على أن لا يتجاوزا ثلاثة. وهكذا، فبدل أن يكون لدينا 435 صوتاً في مجلس النواب، سيكون فيه 50 صوتاً فقط. وإذا أخذنا المجلس الحالي وحدة قياس، فإننا سننتهي إلى أزمة دستورية كبيرة، إذ إنه وعلى الرغم من أن الديمقراطيين يشكلون الأغلبية من ناحية العدد الكلي، إلا أن لدى الجمهوريين أغلبية عددية في 25 ولاية، في حين لدى الديمقراطيين أغلبية في 23 ولاية، ويتساوى الأعضاء الديمقراطيون والجمهوريون عدداً في نواب ولايتي فلوريدا وبنسلفانيا. 

ما سبق هو ما يخشاه الديمقراطيون، أن يخسر ترامب الانتخابات، أو على الأقل أن لا ينتصر فيها، ومع ذلك يبقى رئيساً، وذلك عبر حيل وألاعيب قانونية ودستورية على مستوى الولايات التي يسيطر الجمهوريون على مجالسها التشريعية. وللسيناريو السابق طرق كثيرة، لكن أرجحها الذي ناقشه الجمهوريون في بعض الولايات الترجيحية، كبنسلفانيا، رسمياً، وهو أن يعلن ترامب فوزه في ليلة الانتخابات إذا كانت في صالحه، على افتراض أن أغلب من سيصوّتون في ذلك اليوم هم من أنصاره، مقارنة مع من صوّتوا عبر البريد أو الاقتراع المبكر، ثمَّ يرفض نتائج بطاقات الاقتراع البريدية بعد فرزها بأيام إذا لم تكن في صالحه، كما يتوجس مراقبون. 

ليست أميركا دولة محصنة أمام الأزمات الدستورية، ولا هي عصية على الاختطاف، وقيمها وأعرافها الديمقراطية بحاجة إلى تمتين أشد

وحسب هذا السيناريو، سينقل ترامب والجمهوريون المعركة إلى ساحات القضاء، وصولاً إلى المحكمة العليا التي يسيطرون عليها الآن، بعد تعيين القاضية آمي باريت يوم الاثنين الماضي. ثمَّ سيزعم الجمهوريون في الولايات الترجيحية التي يسيطرون على مجالسها التشريعية أنه تمَّ العبث بالانتخابات عبر الاقتراع البريدي، وحينها ستعلن المجالس التشريعية في تلك الولايات "استعادة" حقها الدستوري في تعيين مندوبيها إلى المجمع الانتخابي، بذريعة حماية إرادة ناخبيها، وبالتالي حرمان بايدن من الـ270 مندوباً على الأقل الذين يحتاجهم للفوز بالرئاسة. وينص البند الثاني من الفقرة الأولى من المادة الثانية في الدستور الأميركي على حق كل ولاية في تعيين مندوبيها إلى "المجمع الانتخابي" عبر مجالسها التشريعية الولائية، غير أن هذا الحق فوّضته الولايات بقوانين إلى مواطنيها، ثمَّ إن في الأمر تعقيدات أخرى، إذ إن في بعض تلك الولايات حكام ديمقراطيون. وبهذا، فإن هدف ترامب والجمهوريين، إذا لجأوا فعلاً إلى هذا الخيار، سيكون المماطلة وتفويت أيام حاسمة، يفرضها الدستور والقوانين الفيدرالية، للتصديق على نتائج الانتخابات وصولاً إلى العشرين من يناير/ كانون الثاني المقبل، في ظل نزاع دستوري وقانوني حول هوية الرئيس الذي ينبغي تنصيبه رسمياً في ذلك اليوم.

مرة أخرى، ما سبق ليس سيناريو حتمياً، ولكنه قائم بالفعل، ويلغي احتماليته أن يفوز ترامب، أو أن يفوز بايدن في ليلة الانتخابات بهامشٍ كبير، ثمَّ تأتي الأصوات البريدية لتوسع ذلك الفارق. وعلى الرغم من ذلك، هذا لا يقلل من خطورة الخلل وفداحته، وهو الذي عرّته سنوات رئاسة ترامب الأربع. ليست أميركا دولة محصنة أمام الأزمات الدستورية، ولا هي عصية على الاختطاف، وقيمها وأعرافها الديمقراطية بحاجة إلى تمتين أشد. ومؤسّساتها، وإنْ كانت قوية، إلا أنها ليست بالرسوخ الذي كان يُظن من قبل. وحتى ينجلي غبار الانتخابات صباح الأربعاء المقبل، أو في الأيام التي تليه، ستكون أميركا على برميل بارود، يخشى كثيرون من انفجاره، في حين لا يبدو أن ترامب سيتردّد في محاولة إشعاله، اللهم إلا أن يُحال بينه وبين ذلك بهزيمة مدوية يوم الانتخابات، أو بصفقة ما، أو ربما بتهديد خلف الأبواب الموصدة من "الدولة العميقة" التي يتذمر منها دائماً ويتهمها بالتآمر عليه.