أوكرانيا تعرّي جيش بوتين

أوكرانيا تعرّي جيش بوتين

07 ابريل 2022
+ الخط -

مع إعلان نائب وزير الدفاع الأوكراني عن استعادة سيطرة جيش بلاده على كامل حدود مقاطعة العاصمة كييف شمالاً، ومع الأنباء عن إبعاد الجيش الروسي عن حدود ميكولاييف في الجنوب، وانتقال القتال إلى داخل حدود مقاطعة خيرسون التي أعلن الجيش الروسي السيطرة عليها منذ أسبوعين، ومع الفشل بالسيطرة على مدينة ماريوبول المحاصرة، تصل أنباء من إسطنبول عن ملامح الوصول إلى قاعدة تفاوض مشتركة، يستثني منها الروس البحث بقضية "شبه جزيرة القرم"، لأنها تخالف الدستور الروسي، وتضع إقليم دونباس موضع نقاش وتصويت ما بعد الانسحاب الروسي من الأراضي الأوكرانية.

هنا، يبرز سؤال غاية في الأهمية: هل وصل القيصر بوتين إلى أهدافه في أوكرانيا؟ وهل ما جرى إنجازه روسياً يعادل ما جرى خسرانه؟ الحرب الروسية التي أعلنت ساعة صفرها بفرق من الجيش الروسي وصل عديدها إلى أكثر من 150 ألف مقاتل مع معدّاتهم الثقيلة والمدرّعة، وبتغطية جوية تؤمنها أكثر من 500 طائرة وحوامة قتالية، تساندهم بحراً ما يقارب 60 سفينة إنزال وطراد وغوّاصة حربية، وترافقهم نارياً قواعد صواريخ باليستية متنوّعة (اسكندر إم، كاليبر، باستيون، وصواريه فرط صوتية)، ووضع للعملية القتالية الخاصة كما أسماها بوتين سقفاً مرتفعاً من الأهداف يجرّد أوكرانيا من قيادتها السياسية وجيشها ويسلخ عنها، وباعتراف رسمي، شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس، ويضع كامل أوكرانيا في حيادٍ أقرب إلى التموضع في الحديقة الخلفية الروسية. ولكن كما درجت العادة، "حسابات البيدر خالفت حسابات الحقل"، واصطدم الجيش الروسي بواقعٍ لم يكن في حسبان جنرالات موسكو، وميادين الحرب التي تُظهر الحقيقة، فقط كشفت زيف التقارير العسكرية التي كان يرفعها قادة العسكر الروس إلى القيادة السياسية، والتي تتضمن ما يحب بوتين سماعه وليس الحقيقة المغيبة.

كشفت الحرب زيف التقارير العسكرية التي كان يرفعها قادة العسكر الروس إلى القيادة السياسية

تلتقي المدارس العسكرية الشرقية والغربية على أنّ المرونة والمبادرة صفتان أساسيتان للقائد العسكري، والمرونة تعني محافظة القائد على ثبات القيادة والاستجابة السريعة لتغيرات الموقف القتالي، أما المبادرة فتعني قدرة القائد على اتخاذ قراراتٍ جديدة، تتناسب مع التغيرات المفاجئة في الموقف. وهناك أيضا قاعدة عسكرية تقول إن الأخطاء الاستراتيجية في الخطط العسكرية لا يمكن تعديلها بإجراءات تكتيكية أو عملياتية، بل يحتاج تعديلها لقرار استراتيجي من المستوى الأعلى، بمعنى أن الخطط العسكرية الروسية التي خطّطت لحرب جبهوية كلاسيكية في أوكرانيا، تقاتل على خطوط وبنية دفاع على غرار الحرب العالمية الثانية، اصطدمت على الأرض الأوكرانية بحرب مقاومةٍ وحرب مدنٍ وحرب عصاباتٍ وشوارع، ولم يعد في مقدور قادة التكتيك في جبهات أوكرانيا إصلاح تلك الخطط، وهم في الأساس يفتقدون المرونة والمبادرة.

وزادت في الطين بلّة المشكلات التي برزت بين مكونات الجيش الروسي من غياب التنسيق والتعاون بين أعمال القوى البرية والبحرية والجوية، والفشل الكارثي في أعمال قوات التأمين والدعم اللوجيستي، وغابت الجرأة لدى قادة المستوى الأعلى بالاعتراف بخطأ التخطيط وغياب التعديل بالخطط. وبالتالي، أصبح واضحاً أن سقف التفاوض الذي وضعه الرئيس الروسي، بوتين، يحتاج إنجازات عسكرية كثيرة، يعجز الجيش الروسي عن تحقيقها، وأن جبهة الشمال في كييف فشلت في السيطرة على العاصمة، وفشلت في سحق قيادتها السياسية والعسكرية، وكذلك فشلت الفرق العسكرية الروسية في الجبهة الشرقية بالدخول إلى مدن خاركيف وتسومي، والجبهة الجنوبية الغربية فشلت أيضاً في الوصول إلى بوابات مدينة أوديسا، بعد استعصاء جبهات ميكولاييف. فقط في الجنوب الشرقي، وعلى سواحل بحر آزوف، استطاع الانفصاليون، وبمساعدة من الجيش الروسي، تحقيق بعض التقدّم والسيطرة على مساحات إضافية من إقليم دونباس في مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك، لكن ما جرى إنجازه روسياً على الجغرافية الأوكرانية (عدا عن حجم خسائر الكبير للروس، والذي لا يتناسب مع ثاني أقوى جيش في العالم) لا يحقق إجبار الرئيس الأوكراني زيلينسكي على الرضوخ والقبول بما أراده بوتين، أضف إلى ذلك حالة الاستعصاء التي دخلها الجيش الروسي على معظم الجبهات.

هدف جعل بحر آزوف بحيرة داخلية لروسيا لم يتحقق بعد

قرار الانسحاب الروسي من محيط العاصمة كييف، ومهما تكن المبرّرات ليس لدعم جبهات الشرق في خاركيف وتسومي، كما يُقال، وليس لدعم إقليم دونباس، فالقوات التي فشلت في تحقيق الهدف الأكبر، السيطرة على العاصمة، وفقدت معظم جاهزيتها القتالية، وفقد جنودها إرادة القتال، وانخفضت معنوياتهم، وتكبّدت أحجاماً كبيرة من الخسائر. لا يمكن لتلك القوات أن تكون معزّزة لجبهاتٍ أخرى، وعملية سحبها نحو الحدود البيلاروسية سيكون هدفها الأول إعادة تعويضها واستكمالها بما خسرت، ومن ثم إعادة انتشارها وتموضعها بانتظار مهام أخرى. وقد تُعطى فرصة بالعودة إلى جبهات كييف، إذا ما تعثرت جبهات التفاوض مع الأوكرانيين، بعد تدعيمها بقوات جديدة أخرى، قد تكون من الجيش البيلاروسي المتأهب لدخول المعركة.

ما تزال عقدة ماريوبول في الجنوب عصية عن الحل، وما تزال المدينة صامدة وترفض الرضوخ، وبالتالي هدف جعل بحر آزوف بحيرة داخلية لروسيا لم يتحقق بعد، لأنه يحتاج وصل دونباس بشبه جزيرة القرم، وضم خيرسون للخريطة الجديدة، وهي المقاطعة التي انتقل إليها القتال أيضاً بعد تمدّد الجيش الأوكراني المدافع عن ميكولاييف إلى داخل حدود المقاطعة، وتم تحرير أجزاء منها. وفي الشرق هناك انسحاب روسي بدأ من مدينة تسومي. .. ماذا بقي من إنجازات للروس؟

لا تؤمن ساحات الحروب إلّا بالحقائق، ولا تعترف بالأرقام والتصنيفات وبهرجة التصريحات

في مدينة بوتشا على حدود العاصمة كييف، وبعد الانسحاب، تكشّفت مجازر الجيش الروسي بحق المدنيين، وتكشّفت معها المدرعات والأسلحة الروسية المدمرة والمعطوبة والجانحة في المستنقعات التي صنعها الأوكرانيون، ووقع فيها الروس. وبات الرئيس بوتين على دراية بحجم فساد جيشه، وبحجم الأكاذيب والتقارير المضلّلة التي كانت تُرفع إليه. ومن المؤكّد أنه باتت لديه معرفة بحجم الخسائر العسكرية التي وقعت في ثاني أقوى جيش في العالم على يد المقاتلين الأوكرانيين، وبقي عليه أن يعلم فقط أعداد القتلى من ضباطه وجنوده، وكيف سينقل الخبر إلى الشعب الروسي الذي حجبت عنه معظم وسائل التواصل الاجتماعي، وحُرّم على الإعلام، بكل أنواعه، نقل الحقيقة أو نقل ما يخالف تقارير جنرالات وزارة الدفاع الروسية.

النصر والهزيمة هما نتائج الحروب. النصر يرافق الأقوى والأكثر تدريباً وتحضيراً، والهزيمة للأضعف، لكن خبرات الحروب والمعارك والدروس المستفادة من الأعمال القتالية ينالها الرابح والخاسر معاً. وعادةً، تكون خبرات الحروب وخبرات القادة العسكر موضع نقاش واهتمام في كل الخطط العسكرية اللاحقة. واليوم أوكرانيا عرّت الجيش الروسي، وفضحت فساد ضباط بوتين وكذبهم واستهتارهم، وعرّت التقارير الكاذبة التي كانوا يتبجّحون بها أمامه، لتزداد الأوسمة والنياشين على بزّاتهم، لكن ساحات الحرب لا تؤمن إلا بالحقائق، ولا تعترف بالأرقام والتصنيفات وبهرجة التصريحات. وقد أفرزت ما أفرزت، فهل يستفيق بوتين من النوم في العسل، ويعيد قراءة المشهد العسكري وترتيبه من جديد برؤية واقعية تتناسب مع الخبرات المستفادة من الحرب الأوكرانية، أم يستمرّ في المكابرة حتى على حساب اقتصاد بلده وسمعة جيشه وأرواح مقاتليه؟

أحمد رحال
أحمد رحّال
عميد ركن سوري معارض، خبير عسكري