أن تتوقّف الاستثمارات الخليجية في مصر

أن تتوقّف الاستثمارات الخليجية في مصر

05 مايو 2023

(محمد عبلة)

+ الخط -

قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في إبريل/ نيسان 2022، إن مصر لم تكن لتقوم لها قائمة لولا تدخل الأشقاء في الخليج وضخّهم عشرات المليارات من الدولارات. ولكن يبدو أن هناك تخوّفا من ألا تقوم لنظامه قائمة بعد انتخابات العام المقبل إن وصلت مصر إليها، تلوح في الأفق، خصوصا مع تصريحات متزامنة لصناديق سيادية عربية ورجال أعمال مصريين وعرب عن عدم ضخّ استثمارات جديدة في مصر في الوقت الحالي.

وليست بعيدة عنّا تصريحات رجل الأعمال الأبرز أنسي ساويرس، والذي حصلت شركته أوراسكوم على مليارات الأمتار من الأراضي بأثمان بخسة. وفي المقابل، تستفيد من البنية التحتية للمدن الجديدة والاستثمارات الحكومية الكبيرة في البنية التحتية لتحقّق أرباحا لم تستطع تحقيقها في أي من الأسواق التي تعمل فيها خارج مصر، بل تفيد تقارير عديدة عن الملاذات الضريبية الآمنة بأن ساويرس وعائلته الأوسع ضمن كبار المتهرّبين من الضرائب والمستفيدين من الحوافز التي تقدّمها الدولة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، وذلك عبر تسجيل كثير من شركاتهم في تلك الملاذات الضريبية الآمنة في جزر تابعة للتاج البريطاني، وهو ما جعل المملكة المتحدة تتربع على عرش قائمة الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر لسنوات طوال.

تبدو شهية آل ساويرس دائرة مع شركائهم الجدد في الخليج، فبينما يعدون بالانسحاب من السوق المصري أو على الأقل عدم فتح مشروعاتٍ جديدة فإنهم يتوسّعون في الأسواق الخليجية، وينسلخون شيئا فشيئا من التحالف الهشّ بين الجيش ورجال الأعمال، وهو التحالف الحاكم في مصر منذ 3 يوليو/ تموز 2013، والذي لم يأمن غالبية رجال الأعمال منه خلال السنوات الماضية، رغم محاولات استرضائهم الجيش والسيسي نفسه بالتبرّع لعشرات الصناديق والمبادرات التي أطلقها.

بطبيعة الحال، وفي اقتصاد نيوليبرالي، ليس مطلوباً من ساويرس ومن على شاكلته أن يخسر لكي يبقى السيسي في السلطة. ولكن من وجهة نظر الاقتصاد الوطني، فإنه وكمستفيد من البلاد في رخائها، على الأقل عليه أن يتحمّل الأعباء الضريبية الحقيقية، وأن يساهم في إقالتها من عثراتها ليس تبرّعا أو تفضلا على الدولة المصرية التي لن يستطيع تحقيق أرباح خارجها بمعدلات ما حققه فيها لأنه لن يتمكّن هناك من الاستمرار في التهرّب الضريبي، ولن يحصل على كل تلك الإعفاءات التي حصل عليها في مصر، والتي من دونها ربما لم نكن لنسمع عنه.

بلد مأزوم اقتصاديا وسياسيا داخليا وخارجيا، ويحتاج لتمويل دولي ضخم لسد فجوة تمويلية، وإن لم يوجدها هو فإنه عمّقها بشكل متسارع جدا

قد تكون للتململ الخليجي والمتزامن مع نظيره لدى الأوليغاركية المحلية وكبار رجال الأعمال الحاكمين للسوق المصري بشكل كبير تداعيات على التوازنات السياسية المحلية، لكن تداعياته الاقتصادية على الطبقات الفقيرة أعلى بكثير من قدرته على تغيير النظام العسكري الحاكم وعقليته، فمن يدفع ثمن صراع الأفيال هذا هم المواطنون الفقراء ومتوسطو الحال من العاملين بطاقتهم العضلية سواء في الجيش أو شركات التطوير العقاري التي يسيطر عليها آل ساويرس بشكل كبير، من يدفع الثمن المرير للتضخّم من صحته وطعامه هم هؤلاء البسطاء ونظراؤهم من الموظفين الحكوميين محدودي الدخل. فكما تفيد دراسات عديدة، هناك ارتفاعات الأسعار والتضخّم الذي يشكو منه كبار الأوليغاركية ومن تأثيراته على السوق وعلى أعمالهم، وبالذات في ظل تذبذب أسعار العملة وعدم استقرارها، وليس بالضرورة كذلك التضخّم الذي تشكو منه الطبقات الفقيرة في مصر، لأن ما يشكله التضخم في أسعار السلع الغذائية الأساسية عبر السنوات العشر الماضية من تأثير في المعدّل العام للتضخّم أكبر بكثير مما تشكّله الارتفاعات في أسعار مواد البناء والمواد الأولية التي تدخل في صناعاتٍ يملكها رجال الأعمال هؤلاء، لكنهم اعتادوا على ألا يتحمّلوا أعباء سياسات كانوا جزءا رئيسيا في الوصول إليها، بينما دوما ينتقدون المواطنين البسطاء على عدم تحمّلهم تبعات سياسات لم يكونوا يوما جزءا من عملية صياغتها أو تقييمها من قريب أو بعيد بالذات في العقد المنصرم.

قد يبدو هذا السلوك الخليجي غريبا من منظور أخلاقي، فبتعبير عميدة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية السابقة عالية المهدي، ففي مجال الأعمال، إلغاء الاتفاقات، حتى لو لم تكن مكتوبة مرة واحدة، غريب جدا ولا يوحي بأي ثقة، وهذا يشبه تماما المواقف التي يعدنا فيها أحد بشيء ثم يتراجع في كلامه في أي لحظة، فنصف تصرّفه بأنه كلام أطفال وليس كلام رجّالة. هذا تقييم أخلاقي بحت لموقفٍ تبدو فيه عوامل الاقتصاد السياسي المصري معقّدة جدا، فنحن إزاء خليجٍ يدرك تماما أنه يتعامل مع بلد مأزوم اقتصاديا وسياسيا داخليا وخارجيا، ويحتاج لتمويل دولي ضخم لسد فجوة تمويلية، وإن لم يوجدها هو فإنه عمّقها بشكل متسارع جدا عبر سياسات وأولويات شديدة السفه وغير مدروسة، ولا أحد بمنطق الدول أو الشركات ناهيك عن نموذج الدولة الشركة التي تدار به عديد من تلك الدول قابل أو قادر على الاستمرار في الدعم غير المشروط لأي نظام سياسي أو اقتصاد دولة أخرى مهما كانت العلاقات استراتيجية مع نظام تلك الدولة.

مثيرة للشفقة صدمة بعض أتباع النظام من المشروطيات الخليجية، فلم يتوقعوا مطلقاً أن تكون بهذه الصراحة والوضوح

قد ينجح بعض الضغط الخليجي ووكلائه من نخب رجال الأعمال المحليين في فرض تعويم جديد للعملة وبعض الإصلاحات الاقتصادية، لكن قدرة هؤلاء على إبعاد الجيش عن الاقتصاد والحد من نفوذه محدودة جدا، بالنظر إلى الطروحات المعروضة والمفاوضات المضنية بين قيادات الجيش والسيسي نفسه في أثناء الطروحات السابقة، والتي طلبوا فيها منه إعادة التفاوض مع بعض دول الخليج على ضخّ استثمارات جديدة أو شراء شركات عامة في أي قطاعات عامة أخرى بعيدا عن تقليص ممتلكاته ونفوذه، وهو الأمر الذي يبدو أكثر إلحاحا هذه المرّة، خصوصا مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الشكلية المقرّر إجراؤها العام المقبل.

المثير للشفقة صدمة بعض أتباع هذا النظام من تلك المشروطيات الخليجية، فلم يتوقعوا مطلقاً أن تكون بهذه الصراحة والوضوح في قدرتها على تغيير بنية الاقتصاد المحلي وتوجيه دفة الإصلاحات الاقتصادية والدفع باتجاه إصلاحاتٍ أعمق مما يطلبه البنك الدولي وصندوق النقد وبرامجهما للإصلاح الهيكلي، والتي أصبحت هي الأخرى تدمج المتطلبات الخليجية في برامج الإصلاح المتعلقة بمصر. بل وتشترط تلك البرامج دخول استثماراتٍ من تلك الدول بمقادير معينة قبل تنفيذ أي مرحلة من الاتفاقات التي تمت مع مصر في تعقيد كبير للمشروطيات الدولية والإقليمية التي أخضعت لها مصر السيسي بسبب السياسات الاقتصادية الفاشلة، والتي لا تخدم سوى الطموحات الشخصية للسيسي نفسه، والذي أصبح مع الوقت عبئا على شركائه الإقليميين أنفسهم. وربما يدلّ تراكم الانتقاد الخليجي لتلك السياسات على رغبة حقيقية في التخلص من هذا العبء.