أفغانستان بعد عقدين من العبث الأميركي

أفغانستان بعد عقدين من العبث الأميركي

13 يوليو 2021
+ الخط -

في وثيقة رسمية صادرة عن "مكتب المنسّق لأنشطة مكافحة الإرهاب"، في وزارة الخارجية الأميركية، بتاريخ 21 أيار/ مايو 2002، تحت عنوان "نماذج الإرهاب الدولي - 2001"، جاء في نهاية الملحق الخامس منها، والمخصّص للحملة العسكرية الأميركية في أفغانستان: "الرسالة التي يبعث بها العمل العسكري الناجح في أفغانستان إلى أولئك الذين يلجأون إلى الإرهاب لتحقيق أهدافهم الدولية واضحة: الولايات المتحدة سوف تتصرّف بسرعة وبقسوة، وبيدٍ تطاول أي مكان في العالم لتعقّبهم والقضاء عليهم". حينها، لم يكن قد مضى سوى بضعة أشهر على بدء غزو الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها أفغانستان، ونجاحهم في إسقاط حكومة حركة طالبان. على أنّ الوقائع والأحداث بعد ذلك بيّنت حقيقة "العمل العسكري الناجح"، بما هو آنيٌّ ومؤقّت، وأكّدت أنّ "الرسالة التي يبعث بها"، لم تكن سوى صيغة دعائية متبجّحة، ومتسرّعة إلى حدّ كبير.
ما شهدته أفغانستان، على امتداد عقدين من الوجود العسكري والأمني الأميركي فيها، كان مسلسلاً من الإخفاقات، راكمَ الأميركيون فيه الفشل تلو الآخر، على الصُّعد كافّة، السياسيّة والأمنية والإنسانية. ليست الأرقام الإحصائية وحدها ما يؤكّد هذه الحقيقة، بل التطوّرات الميدانية المتسارعة التي تشهدها مناطق مختلفة من أفغانستان، بالتزامن مع تنفيذ قرار الانسحاب الأميركي منها.

بالتوازي مع استعادة قدراتها العسكرية والتنظيمية على الأرض، استطاعت "طالبان" ولوجَ الساحة الدولية من البوابة الدبلوماسية

عندما كان الرئيس الأميركي، جو بايدن، يشرح بإسهابٍ قراره الانسحاب من أفغانستان في مؤتمرٍ صحافيّ مخصّص لهذا الموضوع، معلناً أن أميركا "حققت غرضها" في هذا البلد، من خلال إطاحة "طالبان"، كانت مساحات متزايدة من الأراضي الأفغانية تسقط تباعاً في يد مقاتلي الحركة التي لم تغب يوماً عن المشهد الأفغاني، على الرغم من إسقاط نظامها عام 2001. فبالتوازي مع استعادة قدراتها العسكرية والتنظيمية على الأرض، استطاعت "طالبان" ولوجَ الساحة الدولية من البوابة الدبلوماسية، والدخول في مفاوضاتٍ عالية المستوى مع أطراف إقليمية ودولية، بلغت ذروتها في التفاوض المباشر مع الأميركيين، في الدوحة، خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، وصولاً إلى توقيع الجانبين اتّفاقاً وُصِفَ بـ"التاريخي"، لتنظيم انسحاب القوات الأميركية تدريجياً من أفغانستان، والتمهيد لمفاوضات مباشرة بين الحكومة الأفغانية و"طالبان".
لعلّ من المفيد التذكير بأن تلك الخطوات لم تكن بجهود "طالبان" الذاتية فقط، وإنما جاءت في إطار ما يمكن تسميتها "إعادة تأهيل" الحركة، من خلال إشراكها في أي حراكٍ سياسيٍّ ودبلوماسيٍّ يخصّ الشأن الأفغاني، وذلك لثنيها عن تطرّفها، ودفعها لقطع صلاتها مع تنظيم القاعدة وأشباهه، في مقابل مشاركتها في السلطة، والاعتراف بدور لها في مستقبل أفغانستان، يتناسب مع نفوذها الفعلي على الأرض، عوضاً عن استمرار حرب الاستنزاف الطويلة التي لم تفلح جهود القوات العسكرية الغربية، ولا قوات الحكومة الأفغانية المدعومة منها، في حسمها لمصلحتها. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى صعوبة الجزم بشأن استعداد "طالبان" لتبنّي نهج مختلف، فكرياً وسلوكياً، ومدى قدرتها على تقديم نموذج في الحكم، مغايرٍ لتجربتها السابقة شديدة التطرّف.

ربّما سيضطر غني إلى انتهاج سياسة مختلفة في التعامل مع التحدّي المتزايد الذي تشكّله "طالبان"، والعودة إلى ما كان أعلنه عند تولّيه منصبه صيف 2014

وصف الرئيس الأفغاني، أشرف غني، في خطاب له، الحالةَ في بلاده، بأنّها "من أكثر المراحل الانتقالية تعقيداً على وجه الأرض"، مشدّداً على أن قواته قادرة على مواجهة "طالبان". لكنّ الأنباء الواردة من غرب البلاد تفيد بعكس ما قال، حيث تمكّنت "طالبان" من انتزاع مزيدٍ من المواقع في اشتباكات ضدّ القوّات الحكومية. ربّما سيضطر غني إلى انتهاج سياسة مختلفة في التعامل مع التحدّي المتزايد الذي تشكّله "طالبان"، والعودة إلى ما كان أعلنه عند تولّيه منصبه صيف 2014، عن نيّته التوصّلَ إلى تسوية سياسية تحقق السلام والمصالحة، فالرجل يعرف جيداً قوّة "طالبان"، ويدرك قدرتها على مواصلة القتال في حربٍ طويلة الأمد، نظراً إلى تحالفاتها الوثيقة العابرة للحدود، ومصادر تمويلها الهائلة التي تتنوّع ما بين تبرّعات سنوية، و"ضرائب" تفرضها على الشركات والمنظمات العاملة في مناطق سيطرتها، أو حتى ما تدرّه عليها زراعة المخدّرات وتجارتها من مبالغ طائلة، تقدّرها الأمم المتحدة بمئات ملايين الدولارات.
ثمّة في تجارب سابقة عديدة ما يعضد رأي المتخوّفين من التداعيات الخطيرة لقرار سحب القوات الأميركية من أفغانستان، فانسحاب الاتّحاد السوفييتي السابق منها أوائل عام 1989، أعقبته سنوات من الفوضى، تخلّلها انهيار النظام الشيوعي في كابول (1992)، ثم مرحلة ما سمّي "حكم المجاهدين" وحروبهم الأهلية، ما مهّد الطريق أمام حركة طالبان، الناشئة حديثاً، لسحق خصومها، والاستيلاء على السلطة، لتنفرد بالحكم من 1994 حتى سقوط نظامها في 2001.

انسحاب الأميركيين من أفغانستان لن يحلّ مشكلاتها، بل قد يزيد من تعقيدها، في دلالةٍ على درجة العبثية التي بلغتها "أطول حربٍ" خاضتها الولايات المتحدة في تاريخها

وفي العراق، شكّل انسحاب القوات الأميركية منه، أواخر عام 2011، العاملَ الأكثر أهمّية في إنتاج حالة الفوضى والفراغ الأمني التي أدّت إلى صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام آنذاك، ثم سيطرته على مساحاتٍ شاسعة من البلاد، إثر الانهيار المتسارع لفرق الجيش العراقي أمام مقاتلي التنظيم. والعودة إلى سيناريوهاتٍ مشابهة، بعد عقدين على الغزو الأميركي لأفغانستان، تعني أنّ تدخّل الأميركيين لم يحلّ أيّاً من مشكلات الأفغان. وبالمثل، انسحاب قواتهم لن يحلّها، بل قد يزيد من تعقيدها، في دلالةٍ على درجة العبثية التي بلغتها "أطول حربٍ" خاضتها الولايات المتحدة في تاريخها.
وفقاً لموازين القوى الحالية على الساحة الأفغانية، يمكن القول إنّ فرصاً كبيرة تنتظر حركة طالبان لإحكام سيطرتها على كامل البلاد، وهي التي لم يمنعها الوجود الأميركي المستمرّ منذ عشرين عاماً من استعادة قوّتها وتنظيم صفوفها، ثم التمدّد التدريجي وتكريس نفوذها على الأرض، حتى زادت مناطق سيطرتها عن 85% من مساحة البلاد، وفق تصريحات رسمية لقياديين في الحركة. وعلى وقع هذه التطوّرات، أيّ معنى يبقى لكلام الرئيس الأميركي عن نجاح مهمّة قواته في إطاحة "طالبان"؟