أزمة الدولة الوطنية في أفريقيا
تستجدّ أزمة الدولة الوطنية في أفريقيا، في ظلّ موجة الانقلابات التي شهدتها القارّة في السنوات الثلاث الأخيرة. وإذا كانت أسباب هذه الانقلابات وسياقاتها تختلف من بلد إلى آخر، فإن القاسم المشترك بينها أزمةٌ عميقةٌ ومستفحلةٌ في بنية هذه الدولة، بسبب عجز النخب الحاكمة عن إعادة بناء الاجتماع السياسي وفق مقتضيات الديموقراطية وسيادة القانون واحترام الحقوق والحرّيات والحكم الرشيد والتداول على السلطة والتوزيع العادل للثروة.
تعود جذور هذه الأزمة إلى حقبة ما بعد استقلال الدول الأفريقية مطلع ستينيات القرن الماضي، فقد تعثّر نموذج الدولة الوطنية، المأخوذ عن الغرب، بتصلّب البنيات القبلية والإثنية والطائفية للمجتمعات الأفريقية، ما غذّى أزمة الهوية والاندماج الوطني وأعاق تحقيق التنمية وفاقم أزمة الشرعية السياسية. وفي وقتٍ كان يُتوقّع أن تحقّق الدولة الوطنية التنمية الموعودة التي بشّر بها الآباء المؤسّسون لحركات الاستقلال والتحرّر الوطني، تحوّلت مؤسّسات هذه الدولة وأجهزتها، في كثير من بلدان القارّة، إلى أدواتٍ في خدمة النخب الحاكمة التي غالباً ما عكست هيمنةَ (وتسلّط) قبائل وإثنيات ومجموعات بعينها. وعلى الرغم من آمال التغيير التي حملتها فترة ما بعد الحرب الباردة، والتي تبدّت، بالأساس، في سقوط أنظمة الحزب الوحيد، وإقامة أنظمة ديموقراطية شكلية، وتبنّي بعض الإصلاحات الاقتصادية، إلا أن واقع الحال لم يتغيّر، وظلت مؤشّرات التنمية في أفريقيا في تراجع مخيف، عدا استثناءات قليلة، وتبيّن أن التغييرات السياسية الشكلية التي شهدتها دول أفريقية عديدة كانت بدافع التكيّف مع تداعيات تفكك المعسكر الشرقي وأفول اليوتوبيّات السياسية الكبرى.
أخفقت معظم الدول الأفريقية في ربح رهانات التحوّل الديموقراطي والإصلاح والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. صحيحٌ أنها تخلّت عن نظام الحزب الوحيد، وأقرّت التعدّدية الحزبية، والتزمت بإجراء انتخابات رئاسية ونيابية منتظمة وضمانِ التداولِ السلمي على السلطة، لكن البنية القبلية والإثنية للمجتمعات المحلية، واحتدام الصراع على السلطة، وضعف المعارضة والمجتمع المدني، ونشوب نزاعاتٍ وحروبٍ أهليةٍ وأحداثِ عنف، وارتفاع نسب الفقر والبطالة، وتزايد أعداد المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا، عوامل كلها كشفت أن حلّ أزمة الدولة الوطنية في أفريقيا لا يكمن في إقامة ديموقراطياتٍ شكليةٍ بائسة، بقدر ما يكمن في إعادة بناء هذه الدولة، من خلال عقد اجتماعي جديد يساعد على الاندماج الوطني وتأسيس مجتمع المواطنة.
هذه الأزمة العميقة والمستفحلة فاقمها استغلال الدول الغربية الكبرى ثروات البلدان الأفريقية ومواردها الطبيعية الهائلة. وقد أفضى صعود أقطاب جديدة على المسرح الدولي (الصين، روسيا، إسرائيل، تركيا...) إلى احتدام الصراع على القارة الأفريقية، وبالأخص في غربها ووسطها، بين هذه الأقطاب والقوى الدولية التقليدية (فرنسا، الولايات المتحدة، بريطانيا)، بما يرجِّح أكثر تعميقَ معضلات التنمية والأمن والاندماج الوطني والسلم الأهلي في أكثر من بلد أفريقي. كما أن هناك متغيّراتٍ جيوسياسيةً تجد السلطويات الأفريقية صعوبةً في إدارتها والتكيّف مع تداعياتها، أبرزها التهديد الذي أصبحت تشكّلُه الجماعات والحركات المسلحة العابرة للحدود، إذ أخفقت هذه السلطويات في اجتثاثها أو على الأقل الحدّ من خطورتها، الأمر الذي أفسح المجال لعودة الجيوش إلى حلبة السياسة وإعادة طرح أسئلة السيادة والشرعية السياسية والديموقراطية في المجال السياسي، لا سيّما فيما يتعلق بفشل الأنظمة المدنية المنتخبة في مواجهة هذه الحركات والجماعات، بعد أن صارت معضلة أمنية كبرى تهدّد الاستقرار السياسي والاجتماعي في بلدان جنوب الصحراء والساحل وغرب أفريقيا، هذا من دون السهو عن إخفاق هذه الأنظمة أيضاً في التصدّي لشبكات الهجرة غير النظامية والحدّ من تدفق المهاجرين واللاجئين الأفارقة نحو أوروبا. ومن اللافت أن المساعدات التي يقدّمها الاتحاد الأوروبي والمؤسّسات المالية المانحة لدول هذه المنطقة، خصوصاً في قطاعَي الأمن والدفاع، لم تحُل دون تراجع هذه الحركات والجماعات المسلّحة وشبكات تهريب المهاجرين، ما يُعيد أزمة الدولة الوطنية في أفريقيا إلى جذورها، بكل ما يعنيه ذلك من مسؤوليةٍ تاريخيةٍ على النخب والشعوب الأفريقية تحملها قبل فوات الأوان.