آسف يا ريّس

آسف يا ريّس

17 يوليو 2022
+ الخط -

يسترعي الانتباه، في الآونة الأخيرة، ظهور صفحاتٍ إلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي، باسم حكّام عرب آفلين، على غرار أنور السادات ومعمّر القذافي وغيرهما، تحمل شحناتٍ معذّبة من التحسّر والنواح المتأخر على رحيلهم، وتنقّب عن "مآثرهم" و"إنجازاتهم"، لتظهرها على الناس، بل وتسعى إلى تمرير رسائل مبطّنة تحاول قلب الصورة الذهنية التي استقرّت في الوجدان الجمعيّ عن هؤلاء، فالسادات، مثلًا، في عُرف الصفحة الخاصة به تظهره زعيمًا وطنيًّا مخلصًا، حتى بجرأته على تهشيم أشدّ التابوهات حرمةً في العُرف العربيّ، ممثلًا بالتطبيع مع العدوّ الصهيوني، وتصف زيارته إسرائيل بأنها من شيم "الأبطال" الذين يجازفون بأرواحهم من أجل قضيةٍ يؤمنون بها.

يمرّ ذلك كله مرورًا عابرًا أمام المتصفحين العرب على مواقع التواصل، وربما كنت واحدًا منهم، غير أن ما استوقفني، أخيرًا، ووضعني أمام جملةٍ من الأسئلة المحيّرة، ظهور موقع جديد باسم الرئيس المصري الراحل، حسني مبارك، بعنوانٍ محمّل بالدلالات الصفيقة، إذ جاء باسم "أنا آسف يا ريّس"، وهو ما بعث فيّ شكوكًا حول مدى عفويّة هذه المواقع وبراءتها، وهي التي تجيء بدوافع رومانسية ظاهريًّا، لتخليد ذكرى من رحلوا، لكنّها تُبطن دوافع ماكرة تنبش قبور الراحلين، لتأبيد ضريح العقل العربي القائم على جثة "الزعيم المقدّس".

في الموقع إياه عن مبارك، مثلًا، يكفي العنوان رسالة واضحة الأركان، أن ما فعله الشعب المصري في ثورة يناير (2011) كان خطأ لا يُغتفر بحقّ هذا الزعيم "الرمز". وفي الخلاصات نستنتج أن الشعب المصري لا يستحقّ مثل هذا الزعيم، وأدعى به الآن، بعد خطيئته، أن يبدي أسفًا وندمًا بعدد سكّانه الذي يتجاوز مائة مليون نسمة، يوميًّا، للتكفير عن هذا الإثم الفادح، فهو قد فرّط بأيقونته وتاجه، عندما اختار إطاحته والتمرّد عليه، وخسر مستقبلًا زاهرًا كان يوشك أن يظفر به، لو أبقى على هذا الزعيم، ولا مجال للتعويض؛ لأن الزعيم العربيّ لا يتكرّر مرتين، وكان حريًّا بالشعب أن يزيد فوق أبديّة الزعيم الرسمية أبديّة شعبية موازية؛ لأنه المستفيد الأول من بقاء الزعيم على قيد الحكم والحياة معًا.

على ذلك، يمكن فهم الدوافع المضمرة في هذه المواقع التي تحمل "الأسف" عنوانًا لها، لكن يظلّ السؤال قائمًا عمّن وراء إنشائها: هل هم حفنة أناسٍ "أبرياء" حقًّا، يدفعهم أسىً عارم على مآل زعيم شغفهم حبًّا إلى تخليده وتمجيده، والتحسّر عليه، أم ثمّة رجالٌ بربطات عنق في غرفٍ مظلمة يخطّطون ويرسمون، ويجهدون لا بهدف التخليد فقط، بل لضرب جذور القناعات الثورية الجديدة التي تولدت في الذهن العربيّ، أخيرًا، عن ضرورة كسر التابوهات والمحرّمات حيال الزعيم "المقدّس"، و"المنزّه"، الذي لا يأتيه الباطل من أيّ مكان، ولإعادة النظر في ثورات الربيع العربيّ التي كانت سببًا في هذه الخطايا والرزايا والبلايا التي حطّمت أصنامًا ما كان ينبغي أن تحطّم؟

الإجابة واضحة، فالأمر مدبّرٌ تمام التدبير، والرسالة الموازية جليّة، ليس الهدف منها التحسّر على "المفقود" فقط، ممثلًا بزعيمٍ مضى وانقضى عهده، بل للحفاظ على "المولود"، ممثلًا بالزعيم الجديد الذي حلّ محلّه، وتجنّب تكرار الخطيئة القديمة التي كادت تودي بالوطن كلّه. المطلوب أن نعتبر من خطيئتنا السابقة، فلا نجدّد التمرّد على زعيمٍ شاء القدر أن يعوّضنا به خيرًا مما فقدنا، وأن نحفظ هذه "النعمة"، ونصونها ونعضّ عليها بالنواجذ. المطلوب الإبقاء على أنظمة الحكم العربية قائمةً بالمواصفات القديمة نفسها، فالقمع "مقدّس"، والتمرّد "مدنّس"، والخضوع التامّ طاعة واجبة لوليّ الأمر، حتى لو قاد إلى تل أبيب في خاتمة المطاف، أو إلى مهالك اقتصادية واجتماعيّة، وإلى تراجع مستمرّ على كلّ مؤشّرات الفقر والبؤس العالمية.

المطلوب أن نبدي الأسف دائمًا، وأن نشعر بأننا مذنبون بحق حكّامنا الذين لم نمحضهم من الولاء والخنوع ما يستحقّون، ولم تهتف بحياتهم بما يكفي، ولم نقدّم أرواحنا خالصةً لهم، إلا على أعواد المشانق .. وأن نقول لهم صباح مساء: "أنا آسف يا ريّس".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.