الريميك في الألفية الثالثة: أزمة إبداع؟ تحقيق أرباح؟ قراءات جديدة؟

عن الـ"ريميك" في الألفية الثالثة: أزمة إبداع؟ تحقيق أرباح؟ قراءات جديدة؟

23 سبتمبر 2020
مايكل هانيكي: نسختان لفيلمٍ واحد (أندرياس رانتز/Getty)
+ الخط -

 

تقول الإحصائيات الهوليوودية إنّ عقدي الألفية الثالثة سجّلا أكبر عدد من أفلام الـ"ريميك" (إعادة صنع الأفلام)، مع إعادة إنتاج 19 فيلماً عام 2005 وحده. منذ عام 1993، أعيد صُنع 193 فيلماً، بينها 31 فيلماً فقط حقّقت أكثر من 100 مليون دولار أميركي في شبّاك التذاكر.

ما هو سبب تزايد لجوء المنتجين، في هوليوود خاصة، إلى إعادة صنع أفلام من تاريخ السينما، في الأعوام الأخيرة؟ أزمة إبداع، أم مجرّد سعي إلى تحقيق أرباح، عبر الحدّ من مخاطر الاستثمار في نصوص جديدة؟ هل وراء الظاهرة، بين حينٍ وآخر على الأقلّ، نيّة صادقة في تقديم قراءات جديدة لمحكيّات قديمة، تنتبه إلى وضع الأحداث في قلب السياق الراهن، المختلف عن فترة خروج الفيلم الأصلي، واستثمار التقنيات السينمائية الحديثة؟

مفهوم الـ"ريميك" قديم قِدَم السينما. مثلاً: أدّى نجاح "رحلة إلى القمر" (1902) لجورج ميلييس إلى عددٍ مُدهش من النسخ الفطرية، التي حاولت تقليده، والمُراكمة على نجاحه التجاري. مخرجون عديدون حقّقوا بأنفسهم نسخاً جديدة من أفلامهم، كما فعل ألفريد هيتشكوك مع "الرجل الذي كان يعرف أكثر من اللازم"، عام 1956، انطلاقاً من الفيلم الأصلي (1934). كثيراً ما كان الباعث تقنياً صرفاً، كتحقيق نسخة مع الصوت اعتماداً على فيلم صامت سابق، ثم بعد أعوام على ذلك، إنجاز أفلام بالألوان انطلاقاً من شريط أصليّ بالأسود والأبيض. هناك أيضاً محاولة إعادة إنتاج فيلمٍ غير معروف لدى الجمهور، أو طاوله النسيان إلى حدّ ما، رغم توفّره على هامش ربح تجاري مرتفع، إذْ لم تتوفّر لنسخته الأصلية الإمكانات الإنتاجية أو التسويقية التي تؤهّله لجني أرباحٍ كافية.

ينبغي التفريق بين إعادة إنتاج أفلامٍ انطلاقاً من سيناريوهات أصلية، وإنتاج اقتباساتٍ جديدة من أعمال مسرحية أو أدبية اقتبست للسينما سابقاً. في الحالة الأخيرة، يُنظر إلى الفيلم المُقتبس كـ"ريميك"، فقط إذا كان هناك فيلم قوي سبقه إلى مرتبة مرجعية في تاريخ السينما. هكذا، سيُنظر إلى كلّ فيلم يُصنع عن "الفهد"، رائعة الروائي الإيطالي جوزيبي توماسي دي لالمبيدوزا، كـ"ريميك"، لأنّ فيلم لوكينو فيسكونتي، المُقتبس عنها عام 1963، تحفة مُطلقة. فيما سيُعتَبر كلّ فيلمٍ يُنجز مُستقبلاً انطلاقاً من رواية ألبير كامو "الغريب" اقتباساً جديداً وليس "ريميك"، لأنْ لا فيلم وسط الأفلام العديدة التي اقتُبست منها (بينها واحد لفيسكونتي نفسه، عام 1967) استطاع أن يفرض نفسه كمرجع.

 

 

نسبة اختلاف الـ"ريميك" عن النسخة الأصلية تنطلق من المحاكاة الدقيقة، إلى حدّ ما، المسماة "لقطة بلقطة"، كحال غاس فان سانت، في اشتغاله (1998) ذي المرامي التجريبية على "سايكو" (1960) لهيتشكوك؛ أو النسخة الهوليوودية التي أنجزها مايكل هانيكي نفسه عام 2007، نقلاً عن الأصل النمساوي له، "ألعاب مسلّية" (1997)؛ مروراً بإعادة قراءة النسخة الأصلية، مع التنبّه إلى مستجدّات العصر أو اختلاف الثقافة، كتجربة نيكيتا ميخالكوف مع صنع نسخة جديدة من "12 رجلاً غاضباً" (1957) لسيدني لوميت، التي أدّت تقاطعاتها مع راهن السياسة الروسية، عام 2007، إلى اتّهامه بمغازلة نظام بوتين ورجاله الأقوياء. هناك أيضاً، وبالأخصّ، إعادة تقديم "إم" (1931) لفريتز لانغ ـ المعروف بكونه فيلماً شديد المناهضة للنازية ـ بعد 20 عاماً بالضبط على إخراج جوزيف لوزي بشكل استعارة سياسية ومرافعة خفيّة ضد الماكارتية، مع جملة على ملصقه تقول: "الفيلم الأكثر جاذبية في التاريخ يضرب مرّة أخرى".

بالنسبة إلى البعض، الأفلام التي ينبغي إعادة إنتاجها هي فقط تلك المُنجزة في الماضي، عن سيناريو يتراوح بين الجيّد والممتاز، الذي، لسببٍ أو لآخر، مرتبط بظروف الإنتاج، أو مدى موهبة المخرج حينها (أحياناً كثيرة عدم توافق مؤهّلاته مع نوع الفيلم ونبرته)، فلم تتمخّض (الظروف والموهبة) عن أفلام جيّدة. مثلاً: هناك نصّ لفرانك دارابونت كتبه انطلاقاً من "فرانكنشتاين" (1818) لماري شيلي، قال غييرمو دل تورو إنّه من أفضل السيناريوهات التي قرأها، أنجز كينيث براناه منه فيلماً باهتاً (1994) طواه النسيان، رغم مشاركة ممثلين لامعين فيه، كروبرت دي نيرو وآيان هولم.

في العقود الأخيرة، تناسلت أعمال مصنوعة وفق مقاربة أخرى في إعادة إنتاج الأفلام، تُنعَت بالـ"ريبوت": مصطلح ينتمي إلى وسط المعلوماتية، يتعلّق بعملية إقلاع تمهيدي للحواسيب، يُقصد به هنا إعادة إحياء فيلم قديم بالشخصيات نفسها، لكنْ انطلاقاً من قصّة مختلفة، و"كاستينغ" جديد، يُحافظ فيها (الإعادة) غالباً على وجهٍ أو أكثر، لتحقيق الوصل مع الماضي. ارتبطت هذه المقاربة بأفلام الأبطال الخارقين والرعب بشكل بارز، نظراً إلى رغبة استوديوهات الإنتاج في استغلال القاعدة الكبيرة للمعجبين، التي يتميّز بها سجل بعض شخصيات القصص المصوّرة، واستثمار أخرى أضحت أيقونات بارزة، تتجاوز شعبيتها محيط السينما إلى رحاب الثقافة الشعبية، كالمقنّع في سلسلة "سكريم (Scream)"، ومايكل مايرز في سلسلة "هالوين (Halloween)"، التي تفضي محاولة تتبّع مسارات إعادة صنع أجزاء منها بصيغ مختلفة إلى صداع رأس حقيقي.

ينبغي عدم الخلط بين الـ"ريميك" وأشكال أخرى من إنجاز أفلام من السلسلة نفسها، تُصوّر تتمّة القصة (سيكوِل)، أو تحفر في بادئها أو ماضيها (بريكوِل)، أو تقتفي اشتقاقاً عن جانب معين منها ـ شخصية ثانوية أو ثيمة أو حدث معيّن ـ في سياق مختلف (سبين ـ أوف)، أو تمزج بين شخصيات أو عوالم سلسلتين مختلفتين (كروس أوفر). يرى كثيرون في هذا امتداداً لظاهرة الحنين إلى الماضي، التي غزت عالم الموضة والديكور والترفيه، كالأثاث والتجهيزات الإلكترونية وألعاب الفيديو.

 

 

لسوء الحظ، أو ربما لحسنه، فإنّ إعادة إنتاج فيلمٍ ـ ناجح تجارياً في الثمانينيات الماضية مثلاً ـ في شكلٍ جديد، لا يضمن نجاحه في شباك التذاكر اليوم. ربما تجلِب الإعادة أموالاً كثيرة، مصروفة في تسويق خروج الأفلام في نهاية أسبوع افتتاحيّة جيّدة في الصالات، لكنّها لن تشتري أبداً نهاية أسبوع ثانية وثالثة، مُرضية بحسابات شباك التذاكر. هكذا، فشلت أفلام عدّة لم يكن لديها أيّ رهان جمالي يُذكر، غير محاولة تقليد أعمال أصلية، تكون نتيجة كيمياء مُعقّدة ومُركّبة يصعب إعادة خلقها. فالسينما لم تكن يوماً مرتبطة بوصفة نجاح معيّنة. على العكس، ربما أقرب طريق إلى الفشل محاولة تقليد ببّغائي لمنجز فيلميّ ما، يحمل جينات حقيقته الخاصة، المرتبطة بسياق إنجازه، واختيارات المشاركين فيه، وروح تجربتهم المتفرّدة بفرصها وإكراهاتها، التي لن تتكرّر أبداً.

لذا، لا تتمخّض عملية إعادة إنتاج الأفلام عن نتائج مرضية إلا نادراً. أفلام قليلة استطاعت بلوغ مستوى الأفلام الأصلية، أو التفوّق عليها، كـ"للهضاب عيون" (2006) للفرنسي ألكسندر آجا، الذي يحلّق في الأعالي نفسها ـ رعب عضوي ومتوتّر، يزاوج بين السخيف والفظيع ـ التي حقّقها وِس كرافن في تحفته الأصلية (1977)؛ أو "الشيء" (1982) لجون كاربنتر، الذي تجاوز ـ قيمةً فنّيةً وصيتاً (بشكل متأخّر نظراً إلى الفشلين النقدي والتجاري للفيلم عند خروجه) ـ نسخة كريستيان نايبي (ينسب البعضُ الإخراجَ للمنتج هاورد هوكس)، المعنونة بـ"الشيء من عالم آخر" (1951)، بالرهان على رؤية بصرية ودرامية خلاّقة، رغم أنّ كليهما مُقتبس عن رواية الخيال العلمي نفسها لجون كامبل.

عام 2019، خرج "ريميك" لفيلم أدريان لاين الأبرز، "سلّم يعقوب" (1990)، يُشكّل حالة دراسية مثلى لهذه الإشكالية. الفيلم من توقيع الأميركي ديفيد ميتشل روزنتال، الذي أنبأت أفلامه الأولى عن موهبة حقيقية. تفطّن فريق الإعداد إلى ضرورة إعادة صوغ السيناريو العظيم، الذي كتبه بروس جويل روبن، فاختاروا مَوْقَعة القصّة في الحاضر، ببطولة جندي عائد من حرب أفغانستان (بدل فيتنام في الفيلم الأصلي)، وأدخلوا تغييرات مهمّة على الحبكة، بما في ذلك النهاية، رغم صعوبة إيجاد بديل عمّا يعتبره كثيرون أفضل انقلاب درامي مفاجئ في تاريخ السينما، تُقرأ على ضوئه كُلُّ أحداث الفيلم بمنظور مغاير. رغم هذا، كانت نسخة 2019 باهتة وغير مُقنعة البتّة، ففي الحقيقة، لا أحد يستطيع صوغ فيلمٍ يصمد في المقارنة مع تحفة لاين، لأنّ هذه الأخيرة نتاج تضافر عوامل غير قابلة للنسخ، قوامها براعة المخرج، المُكتسبة عن جماليات الإعلانات في خلق الأجواء الخانقة المثلى لـ"ثريلر" سيكولوجيّ يلامس، بين حين وآخر، منحى أفلام الرعب، بما في ذلك إضاءة معتمة تدعم طابع الكآبة الذي يميّز نصّ روبن.

هناك أيضاً أداء الكبير تيم روبنز في الدور الرئيسي، خصوصاً توافق موعد خروج الفيلم كخاتمة سلسلة أفلام عدّة فتحت مجدّداً جراح حرب فيتنام مع أجواء شفقيّة، فأفرز تموقعه الحكائي، بين الحلم والتوهّم والواقع، مسافةً مع طرق تناول هذا الموضوع الملتهب بشكلٍ مسكوك، من زاوية الصدمة الفرويدية، من خلال تبنّي فلسفة كارل يونغ عن التفرّد، أو الرحلة نحو اكتشاف الروح.

في النهاية، الأفلام الجيدة تشبه تفعيلات الفنّ المعاصر، من حيث تفاعلها المكهرب مع الواقع وزمن إنجازها، ومحاولة "تكرارها" تشبه، إلى حدّ كبير، السعي العقيم إلى إقامة نسخة جديدة من حفل موسيقي تاريخي.

المساهمون