السينما الغنائية في مصر: تلك اللحظة الحرجة في السبعينيات

السينما الغنائية في مصر: تلك اللحظة الحرجة في السبعينيات

08 مايو 2021
أم كلثوم في فيلم "وداد" (Getty)
+ الخط -

في بداية السينما المصرية، وخلال عقود طويلة تمتدّ بين ثلاثينيات القرن الـ20 وستينياته، كان "الفيلم الغنائي" الأكثر ازدهاراً بين الأنواع السينمائية كلّها. كان نادراً أنْ ينجح مطربٌ أو مطربة حينها من دون أنْ يُحوّل النجاح إلى أفلامٍ، بل إنّ أول فيلم مصري ناطق كان غنائياً، واسمه "أنشودة الفؤاد" (1932)، لماريو فولبي.

لكن منذ سبعينيات القرن نفسه، بدأ هذا النوع مرحلة الأفول، لأسبابٍ تاريخية وفنية وسياسية واجتماعية.

في البدء كان الغناء

لتحليل أفول الأفلام الغنائية المصرية، سيكون مهمّاً طرح سؤال عن أسباب ازدهارها أصلاً. فالمسرح المصري كان في حالة نهضة ونجاح كبيرين، في عشرينيات القرن الماضي، ويكمن جزءٌ أساسيٌ من هذا النجاح في كونه غنائياً. والوجبة، بالنسبة إلى المصريين، تكتمل مع جرعات من الدراما أو الكوميديا، وإلى جانبها أغان واستعراضات. حتى الفِرَق التي لم تعتمد على الأغاني في أحداث العرض نفسه، كانت تضمّ مُطرباً وفرقة موسيقية، يغنّون ويعزفون للجمهور بين الفصول. هذا النموذج تحديداً نسخ مع دخول السينما: أفلام درامية، يمرّ في سياقها غناء مُطربٍ أغنية ترتبط بالموقف حتماً، لكنّها لا تُطوّره على مستوى الأحداث، فتبدو كأنّها تعليق صوتيّ للمشاعر.

هذا ما أراده الجمهور من السينما أيضاً، ولذلك بُعد تاريخي مهمّ جداً. ففي زمنٍ سابق، لم يكن التلفاز موجوداً في مصر بعد، وعلاقة المستمع بمطربه المفضّل تنشأ من صوته عبر الراديو. الوسيلة الوحيدة لرؤية المطرب/ النجم عن قرب تتمثّل بحضور حفلة موسيقية له، وهذا مُكلف جداً، أو اختيار السينما وشراء بطاقة دخول يكون سعرها أرخص بكثير. بناءً على ذلك، جميع نجوم الغناء ـ بين الثلاثينيات والستينيات ـ ظهروا في أفلامٍ سينمائية مؤدّين أدوار البطولة، بدءاً من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وأسمهان، إلى عبد الحليم حافظ وشادية وصباح، وغيرهم. حتّى المطربين والمطربات (حضورهم على الشاشة ضعيف جداً)، كمحرم فؤاد ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد، كانت لهم تجاربهم أيضاً. مُهمّ التأكيد هنا على أنّ تلك الأفلام كانت "غنائية"، لا "موسيقية" أو "استعراضية"، بحسب التعريف الهوليوودي.

سينما ودراما
التحديثات الحية

أفلام الـ"Musical" نوع تُستخدم فيه الأغاني والاستعراضات لتطوير الدراما، بدلاً من الحوار. أما في مصر، فالفيلم يتوقّف حرفياً أثناء الأغنية، وحذفها لن يؤثّر شيئاً على مسارِ أحداثه. الاستثناء نادرٌ جداً. ربما تجربة يوسف شاهين مع فريد الأطرش وشادية في "إنتَ حبيبي" (1957)، واستخدام الأغاني درامياً، وأيضاً في "شيء من الخوف" (1969)، لحسين كمال، مع شادية. خلاف ذلك، تعاملت الغالبية الساحقة من الأفلام مع الأغنية بنظام المسرح نفسه، أي الغناء بين الفصول الدرامية.

السبعينيات: تغيّر كلّ شيء

مع بداية السبعينيات الماضية، حدثت تغييرات في مناح عدّة في الحياة، بدءاً من هزيمة يونيو/ حزيران 1967، ورحيل جمال عبد الناصر عام 1970. الحدثان مؤثّران في دعم الدولة للسينما التي تحوّلت أفلامها في تلك اللحظة الصعبة إلى محض رفاهية، وتوقّف جيل كامل من المخرجين والممثلين عن العمل بالكثرة السابقة نفسها.

في صورة أضيق وأكثر تحديداً، حدث أنْ استقرّ التلفاز في كلّ بيت، وفقدت الأفلام الغنائية ميزة رؤية المطرب/ المطربة عن قرب، ثم انفتحت مصر على شكل موسيقى جديد، كالفرق الموسيقية التي تقدّم موسيقى بديلة، أو فنانين جدد، كمحمد منير وعلي الحجار.

هذا كلّه حَدَث مع وفاة أم كلثوم (1975)، ثم عبد الحليم حافظ (1977)، وأيضاً بالتزامن مع تسارع إيقاع الحياة، و"الانفتاح" على العالم، اقتصادياً وثقافياً. حينها، كانت مصر كلّها، بلداً وفنّاً، تبدأ مرحلة جديدة. سينمائياً، أثّرت كلّ تلك التغيّرات، بدءاً من الثمانينيات، بجيلٍ جديد من المخرجين (محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة، وآخرين من جيلهم)، يميل إلى سينما واقعية وفنية تتعارض تماماً مع فكرة "الأفلام الغنائية". مع وجود موجة أخرى من الأفلام، تسمّى "المقاولات"، تعتمد على خلطة من الكوميديا والأغاني، كانت تستغلّ مطرباً واحداً فقط، هو أحمد عدوية، وبشكل كوميدي أيضاً، نادراً ما يعتمد على الأغاني.

بالتأكيد، كانت هناك تجارب سينمائية تحاول استغلال نجوم الغناء اللامعين، في الثمانينيات والتسعينيات، تحديداً عمرو دياب ومحمد فؤاد. لكنّها تظلّ محدودة الأثر تماماً، فهناك "حتمية" لاندثار هذا الشكل من الأفلام الغنائية، في زمن عبد الحليم، التي تتوقّف فيها الدراما من أجل أغنية.

الإجابة ليست الأغاني

مع نهاية التسعينيات الماضية، بدأت موجة جديدة من السينما، سُمّيت بـ"سينما الشباب"، بدأت مع نجاح خارق لـ"إسماعيلية رايح جاي" (1997)، لكريم ضياء الدين، بطولة المغني محمد فؤاد، وفيه 6 أغان متنوّعة. فهل يعني ذلك عودة الإقبال على هذا النوع؟ لم يكن أحدٌ يعرف بعد. الفيلمان اللاحقان لشريك محمد فؤاد في بطولة الفيلم، الممثل محمد هنيدي، لمخرجهما سعيد حامد، "صعيدي في الجامعة الأميركية" (1998)، و"همّام في أمستردام" (1999)، مليئان بالأغاني أيضاً، بصورة مختلفة وكوميدية.

حقّق الفيلمان نجاحاً أكبر من نجاح "إسماعيلية رايح جاي"، من دون وجود مطرب. ثم بدأ جيل جديد من الـ"كوميديانات" يظهر، أهمهم علاء ولي الدين الذي نجح من دون وجود أغان في أفلامه. كذلك فعل هنيدي نفسه لاحقاً.

بالتالي، ظهر أنّ الإجابة لم تكن الأغاني أبداً، بل الكوميديا. تظلّ الأغاني مهمّة، لكن في إطار من الـ"إيفيه" المُلحّن، كأفلام وأغاني الممثل محمد سعد لاحقاً، أو المساهمة في دعايات الفيلم، لكنْ ليس بالشكل الكلاسيكي القديم. في العقدين الأخيرين، كان هناك استثناء وحيد، لفترة قليلة من الزمن، يتمثّل بالمطرب تامر حسني الذي قدّم عدداً من الأفلام بنموذج عبد الحليم: رومانسية مع أغان كثيرة. حصل هذا بين عامي 2005 و2012، وتحديداً في "عمر وسلمى" بجزئيه الأول (2007، لأحمد فريد)، والثاني (2009، لأحمد البدري)، و"نور عيني" (2010)، لوائل إحسان.

صحيحٌ أنّ جرعة الكوميديا في هذه الفلام زائدةٌ أيضاً، لكنّ حسني اتّبع النموذج نفسه، ونجح فيه، وربما يأتي ذلك من شهرته الخارقة بين الشباب والمراهقات، حينها. لكنّ تامر حسني انقلب على هذا النموذج في الأعوام الأخيرة، بتقديمه عدداً من الأفلام من دون أغان على الإطلاق، تنتمي إلى نوعيات سينمائية مختلفة، كالرومانسية الكوميدية مع "أهواك" (2015)، لمحمد سامي، والإثارة والخيال مع "تصبح على خير" (2017)، لسامي أيضاً، ثمّ الكوميديا الخالصة مع "البدلة" (2018)، لمحمد جمال العدل، وأخيراً الأكشن والحركة مع "الفلوس" (2019)، لسعيد الماروق.

هذه الأفلام، التي حقّقت نجاحاً كبيراً من دون أغنيات، تؤكّد على ذكاء حسني الذي أدرك ضرورة فصل الممثل عن المطرب فيه، وعرف أنّ شكل الأفلام الغنائية الذي قدّمه في البداية لن يستمرّ في النجاح.

الناس يتغيّرون

بعد هذا كلّه، يمكن ربط أفول الأفلام الغنائية بالأسباب المطروحة في البداية: تاريخية، مع ولادة التلفاز ثم شبكة الإنترنت، ورؤية المطرب/ المطربة لم تعد مرتبطة بالسينما فقط؛ وفنية، لأنّ إيقاع الحياة والأفلام لم يعد يحتمل توقف الأحداث فجأة من أجل أغنية، ولأنّ السينما المصرية لم تبتكر شكلاً "استعراضياً/ موسيقياً" يربط الغناء بالدراما، إلّا نادراً. هناك أيضاً أسباب اجتماعية ـ سياسية، فالناس يتغيّرون، ويريدون أنواعاً سينمائية مختلفة كلّ فترة، إنْ تكن كوميديا أو أكشن أو إثارة، فدراما الـ"حواديت"، التي قدّمها عبد الحليم حافظ، لم تعد صالحة.

المساهمون