كالعادة: الصهيوني نجم احتفالات نصر أكتوبر

كالعادة: الصهيوني نجم احتفالات نصر أكتوبر

09 أكتوبر 2020
+ الخط -

هذه المرّة يتولى نتنياهو المهمة بنفسه: اعتماد الرواية الصهيونية على الذاكرة المصرية والعربية فيما خص ذكرى حرب أكتوبر 1973.

يفرض نتنياهو نفسه نجمًا للحفل، فيطرح حكاية مليئة بالتوابل عن كيف حوّلت إسرائيل هزيمتها في بدايات المعركة إلى انتصار على"الأعداء". يفعل ذلك وهو موقن بأن بضاعته سوف تكتسح سوق الكلام، وتتصدّر قائمة مبيعات الثرثرة والجدل، وترفع سهم السؤال: أكتوبر هزيمة أم انتصار؟ أم نصف هزيمة ونصف انتصار؟.

يبتلع كثيرون الطُعْم، وبمنتهى الإصرار، يتركون كل شيء مضيء، ويركضون خلف وجبة نتنياهو، المتبلة بالبهارات الحريفة، خصوصًا وهو يستخدم مفردة "العدو" في السرد، لتصبح القضية انظر كيف ينظر لنا رئيس حكومة الصهاينة بوصفنا الأعداء، لا نزال؟ ثم تنهمر الأسئلة: كيف تسكت مصر، ولماذا تسكت مصر على هذه الوقاحة؟ 

وفي المحصلة، ها هو نتنياهو نجح في فرض كلامه موضوعًا رئيسًا على المائدة، ليتحقّق مراده: تسميم ذكرى الإنتصار العظيم في الوجدان العربي، في إطار مشروع صهيوني متكامل، ومتكرّر في كل عام، مع إجراء تعديلاتٍ طفيفةٍ في السيناريو، بحيث لا يتركون الذكرى إلا وقد لوّثوها وسمّموا وعي المواطن البسيط بها: مرّة أشرف مروان جاسوسًا لإسرائيل، وعنصرًا مهمًا في إنقاذها من الغرق في العام 1973.. ومرّة أخرى، كما حدث قبل ثلاث سنوات، تسويق حكاية صهيونية عن جاسوس مصري جديد ساعد الإسرائيليين في حرب 1973، لكنه ليس مثل أشرف مروان، زوج بنت جمال عبد الناصر، وفتى أنور السادات المقرّب، هذه المرة جاسوس من الوزن الأثقل، والحجم الأكبر، لم يُكشَف عن اسمه بالطبع، كي تبقى الإثارة حاضرة، وموائد نهش اللحوم ونبش القبور ممتدّة.

وهذا العام، تقدّم إسرائيل طبقًا آخر فاخرًا، لكنه كذلك مسمّم، فتعلن عن جاسوسٍ جديد من الأرشيف، الضابط"جولييت" أو نسخة جديدة من أشرف مروان، فتنشر الصحافة العبرية كيف نجحت الإستخبارات العسكرية الصهيونية في تجنيد ضابط مصري، لعب دورًا كبيرًا في إنقاذ العدو الصهيوني من هزيمة كاملة، برسالةٍ مفصلةٍ قلبت الأوضاع على الأرض، وغيرت مجرى المعارك لصالح إسرائيل.

رواية مفصلة تتطابق مع حكاية نتنياهو، وتقول، في النهاية، إن العرب لم ينتصروا على إسرائيل، بل انهزموا بأيديهم، ومن خلال جواسيس الكيان الصهيوني المزروعين في نخاع الدولة المصرية.

قلت سابقًا، وأكرّر ولن أملّ من التكرار، إن  الصهاينة بارعون في مسألة سرقة الفرحة من قلوبنا، وتسويد بياض ذاكرتنا، وها هم بعد أن تحقّق لهم تغيير جغرافيتنا، وترسيم حدودنا، وتخطيط مسار علاقاتنا، جاء الوقت ليصيغوا حكاياتنا، ويكتبوا تاريخنا، بالعبرية الصريحة، فيبتهج الذين يبحثون عما يدعم حواديت الدراما السوداء، أيّما بهجة، ويواصلون استمتاعهم بافتراس الماضي، فيستحيل النصر هزيمةً، وتتحوّل دماء شهداء الحروب إلى عبواتٍ من"الكاتشب" تعطي وجباتهم نكهة مختلفة.

لا يمكن أن نتوقع منهم غير ذلك، في ذكريات الأيام الخالدة، لكننا بدلًا من أن نُحبط مخطّطهم الثابت في اللإنقضاض على الذاكرة العربية وإضرام النار فيها، نساعدهم بمضغ واجترار ما ينتجونه من حكاياتٍ مصنوعةٍ بدقة شديدة، والتعاطي معه باعتباره الإكتشاف المذهل، أو الإستسلام لمصيدة المصطلحات والتعبيرات، من عيّنة أن نتنياهو يصف الجانب المصري في معركة 1973 بأنه "العدو". وأظن أن ذلك من المضحك حتى البكاء، إذ لا تكون الحرب إلا بين أعداء، فوفقًا لقواميس المعارك ونواميسها فإنها تنشب بين طرفين، كلاهما عدو للآخر، ومن ثم فإن كلمة "عدو" لا تتعدّى كونها اصطلاحًا عسكريًا وسياسيًا، تُبنى عليه الخطط وتدار المعارك.

لا توجد مفردة أخرى في العلوم العسكرية لوصف الطرف الآخر في الحرب، فهو العدو أو الخصم بالضرورة، ومن ثم فهي لا تعدو كونها مفهومًا عسكريًا وقت المواجهة، وليست تعبيرًا عن موقف فلسفي أو معرفي أو أخلاقي من الآخر، في ظروفٍ مغايرةٍ بالكلية لما كان في زمن الاقتتال.

ومن أسفٍ أن الرابح من هذا الجدل العبثي حول التسمية هو الكيان الصهيوني أيضًا، إذ يبدو الأمر وكأن بعض المتفاعلين مع طرح نتنياهو مندهشون من أنه يصف مصر بالعدو، وكأن ذلك ليس طبيعيًا، مع أنه ربما يكون الأمر المنطقي والطبيعي الأساس والوحيد، أن الكيان الصهيوني هو العدو لمصر والمصريين والعرب، كما أن مصر الحقيقية، وليست النسخة المزوّرة منها، مصر العربية، وليست النسخة المتصهينة منها، هي العدو لإسرائيل .. فلم الدهشة من المندهشين الأعزاء؟

لا أستطيع أن أفهم من هذه الدهشة سوى أنها تسعد نتنياهو والعدو الصهيوني كثيرًا، ربما بأكثر مما يسعدهم العتاب من المعاتبين غير الأعزاء من أتباع الجنرال الذي تعتبره إسرائيل أغلى هدايا الزمان لها، ولماذا لا تفرح إسرائيل، وهي ترى خصومها الفعليين يستهجنون أن تصفهم بالأعداء، حتى وإن كانت تتحدّث عن موقفٍ مضت عليه سبعة وأربعون عامًا؟

لماذا لا يفرح العدو التاريخي والوحيد، وهو يتحكّم في فقرات الإحتفال بذكرى انتصارنا، ويزرع صدورنا بالشك في قدراتنا، ثم يستدعي وزير خارجية أبو ظبي للذهاب مع وزير الخارجية الصهيوني لوضع أكاليل الزهور لضحايا هولوكوست النازي، في ذكرى يوم العبور العربي، أو يوم "كيبور"، بحسب أدبيات الحلف الظبياني الصهيوني؟.

 

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا