محطات قطار باريس: مراكز ثقافية وتاريخية تشهد للحضارة الفرنسية

محطات قطار باريس: مراكز ثقافية وتاريخية تشهد للحضارة الفرنسية

20 يناير 2015
مجموعة من المحطات الباريسية (العربي الجديد)
+ الخط -
لا يعتبر التنقّل بين قطار وآخر أمراً ممتعاً ومثيراً للفضول، وربما تكون باريس الاستثناء الوحيد، إذ لا تحتوي المدينة على محطة رئيسية كما هو الحال في باقي المدن الأوروبية، إنّما تمر شبكة من قطارات المسافات الطويلة (6 قطارات) ترغم الراغبين في تغيير القطار على ملاحقته بالمترو أو الترام أو سيارات الأجرة أو الباصات.

كانت القطارات في باريس لفترة طويلة (منذ حوالى القرن ونصف القرن) وسيلة لتنقّل الطبقة الغنية والميسورة، وكان ركّاب القطار ينتظرونه في مطاعم وصالونات فاخرة على الأرصفة المحيطة بالسكك الحديدية.

هذا ما يفسّر الإصرار على مماثلة المحطات القديمة بعمارات النبلاء الإقطاعيين. لاحقاً تحوّلت تلك المحطات إلى ساحات ثقافية تلتقي فيها نشاطات وأعمال فنية وتاريخية ارتبطت بمدارس عالمية، وأصبحت المعارض التي تقام فيها حدثاً ينتظره عشاق الفنون - الرسم تحديداً - عبر العالم، وهذا ما شهده متحف "أورساي" الذي يقع على الضفة اليسرى لنهر السين، وكان سابقاً محطة تمر بها السكك الحديدية لتربط باريس بجنوب غربها، فتتحوّل اليوم إلى واحدة من أكبر صالات العرض أناقة لتجسّد رسومات المدرسة الانطباعية وأزياء تعود للنصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما بدأت الموضة تشق طريقها لتصبح صناعة مزدهرة.

في الصالة أعمال دولاكروا، مونيه، أوغست رينوار، ديغا، غوغان، تولوز – لوتريك، ادوارد مانيه والهولندي فان غوخ. تبدو اللوحات التي شدت قسماً كبيراً من الزائرين تلك التي دمج فيها مانيه الفن الواقعي في تعريف للماضي وتصوير إيحائي يطال الطبيعة الخلابة والفضاء الواسع في فلورنسا وفيينا.

يقف الوافدون إلى المعرض مدهوشين أمام لوحات "الغداء على العشب" و"الغجري" و"الطبيعة الصامتة". وتبدو الصالة كأنها إطار بنيوي لحالات ماثلة على لوحات كبيرة يراد منها صوغ إشكاليات حول محتوى الفن الذي تقدمه.

"أصبحت زيارة المتحف فرصة للتعريف بهذه المدرسة (الانطباعية) التي أحدثت ثورة في العلاقة بين الظلال والأضواء، واهتمت مع المدرسة الواقعية بتصوير موضوعات من الحياة اليومية بدلاً من اللوحات التي تهتم بالمواضيع الدينية أو صور النبلاء فقط.

كلنا نعرف أن مونيه طُرد من مدرسة الرسام كورتيه لإدانته بالجرم المشهود وهو يرسم سيدة تتناول وجبة الغداء، مما اعتبر إهانة للفن آنذاك". يقول غي كوجفال، مدير المتحف، ويضيف "هناك انفتاح في مستوى العادات والمواقف بفضل إنشاء المحلات التجارية الكبرى وتوزيع نشرات خاصة بالموضة. ويمكن القول إنّ تطوّر الفنون تزامن مع تطوّر الموضة عام 1860".

في محطة "أوستيرليتز"، التي يقصدها المتوجهون إلى وسط وجنوب غرب فرنسا، وهي للمناسبة تحمل اسم المكان الذي كان مسرحاً لمعركة القياصرة الثلاثة التي انتصر فيها نابوليون عام 1805 على التحالف القائم بين نمسا وألمانيا، يتولّد الإحساس بأناقة الماضي من خلال لوحات الجدران وحجم الأسقف والثريات التي علّقت على الطراز الذي ساد القرن 20.

تذكّرت فوراً سلفادور دالي الذي قضى أشواطاً يتنقّل بين مدريد وبرشلونة وباريس، واستوحى الكثير من أعماله التشكيلية في قطارات المحطة، برفقة زوجته جالا التي كانت سابقاً زوجة الشاعر "بول ايلوار"، وخطر على بالي كافكا ومجموعته القصصية "سور الصين" التي كتب جزءاً كبيراً منها بإيحاء إحدى رحلات القطار التي لا تخلو بعض أحداثها من ذكر القطار.

إلى محطة ليون حيث الانطباع الأول عن الشكل الهندسي الذي اتخذته المحطة: في الواجهة ساعة كبيرة بطول 67 متراً تقريباً وفي الطابق الأول يوجد مطعم القطار الأزرق، الذي يقصده سنوياً مئات آلاف الزوار لقيمته الأثرية ولرمزيته التاريخية، فهو مزيج من طراز الإمبراطورية الثانية أو حقبة نابوليون الثالث والطراز الباروكي، فتكثر الزخارف واستخدام الستائر وتحضر عناصر عصر النهضة والفن الكلاسيكي من الأقواس والأعمدة والتصوير التشكيلي الزيتي.

وتعدّ بعض قاعات المطعم من الآثار التاريخية منذ عام 72 (القاعة الذهبية، القاعات التونسية والجزائرية) وتحوي عشرات اللوحات والرسومات والتماثيل والقوالب الذهبية والثريات الفخمة، إضافة إلى العديد من الجداريات (41 جدارية) التي تمثّل أهم مراحل تطور سكك الحديد من باريس إلى ليون إلى حوض المتوسط.

وقد حظيت المحطة برمزية خاصة بعد ترميمها نتيجة الحريق الكبير، الذي قضى على جزء كبير منها أثناء أحداث كومونة باريس سنة 1871. ولعب مطعم القطار الأزرق دوراً هاماً في جذب شخصيات عالمية في القرن الماضي، منها سلفادور دالي، كوكو شانيل، بريجيت باردو، مارسيل بانيول والرئيس ميتران وآخرون.. وتسيّر هذه المحطة رحلات إلى مدن الوسط وجنوب شرقي فرنسا، كما يقصدها المتوجهون إلى لوزان وجنيف في سويسرا وبعض المدن الإيطالية.

أما محطة الشمال (غار دو نور) في باريس فتعتبر الأكثر ازدحاماً في أوروبا والثانية عالمياً (يقصدها ما يزيد عن 150 مليون مسافر سنوياً). تقع في الدائرة العاشرة في باريس ويشار إليها كساحة لمشاكل فرنسا الاجتماعية ولمواجهات تتكرر بين عصابات ومهربين وخارجين عن القانون يستغلون مركز المحطة وكثافة الزائرين للقيام بأعمال نهب وسرقة. على مر السنوات الأخيرة شهدت المحطة حوادث خطيرة هدّدت في بعض منها حياة آلاف المسافرين.

بنيت المحطة بشكل أساسي استناداً إلى الموديل النيوكلاسيكي، وهذا ما سمح ببناء واجهة ضخمة ارتفعت على أعمدتها تماثيل كما على الطريقة الرومانية، تجسّد المدن التي تُسيّر عليها رحلات عبر المحطة. التماثيل الأكثر هيبة وجمالاً وارتفاعاً (5 أمتار ونصف المتر) هي تلك التي تمثّل مدن الخطوط الدولية كباريس ولندن وأمستردام وفرانكفورت، فيما تكتفي التماثيل المحلية بارتفاع 4 أمتار على مستويات مختلفة.

والحال أنّ تلك المحطات القديمة لم تعد نقاط انطلاق ووصول للمسافرين، ولا مراكز عبور من مدينة إلى أخرى، بل اكتسبت بعداً تاريخياً وأهمية رمزية ولكونها ساحات التقاء فكري، ثقافي وفني وتشابك حضاري، احتلّت مكانة سياحية عالمية وأصبحت مقصداً للسياح من مختلف أصقاع الأرض.

المساهمون