الدراما المصرية.. اللص يحقّق العدالة

الدراما المصرية.. اللص يحقّق العدالة

04 يوليو 2017
+ الخط -

في أوائل تسعينيات القرن الماضي، قدمت السينما المصرية فيلمًا بعنوان "حنفي الأبهة"، بطولة عادل إمام، الذي يظهر في دور لص غير عادي، يملك شخصية استثنائية، قوية وفريدة، لعبت أصابع المؤلف بمجهود شاق ومتعمد، في صناعته بطريقة تبدو مقبولة شعبويًا، لا تخلو منها النكهة الكوميدية المفرطة، التي يتميز بها أداء "الزعيم" المتكرر، ويرتجلها، كي يتسلل بها لوعي المشاهد في خروجه عن النص أحيانًا.

فإن تكثيف الشخصية بهذا الشكل الدرامي والفني، بما يعكسه من انحيازات واضحة ظهر فيها حنفي الأبهة، يملك وحده الموهبة الفذة والقدرة على تقديم مبادرات قوية ووضع الخطط الجادة، والمرونة في التعامل باحتراف وخفة، لا تقل عن موهبته في التقاط السرقات، بقوة مغناطيسية وتخفٍّ بارع؛ حيث تم تقديمه في دور مركزي ومساحة أكثر تأثيرًا، تحول معه باقي المشاركين إلى أثر له وظل لخطواته ومعلقين بمشيئته، بينما جاءت الشخصية المقابلة والنقيضة له الممثلة في "ضابط الشرطة"، مجرد حلقة ضعيفة وباهتة وقليلة الحيلة، تتقلص مساحتها كلما اقتربت من اللص، بنفوذه القوي الذي يبدأ في الاستحواذ على مساحات أوسع من تلك المقرر تأديتها بشكل مباشر، وهو استدعاؤه خارج السجن الذي يقضي فيه فترة عقوبة، بهدف المساعدة في العثور على شركائه في الجريمة.

فإن اللص الذي يركن إليه جهاز الشرطة في تحقيق العدالة على الوجه الأمثل، كما طرحه الفيلم في مشاهد يبدو فيها حليفًا صالحًا لجهاز الشرطة، يعوضها عن كفاءتها المفقودة ويقدّم وجهًا حسنًا للص، من دون سياق فني ومبرر يكشف عن شخصيته الحقيقية والمضمرة وتحولاتها، لكنه سعى إلى ترك انطباعات سريعة يظهر فيها "حنفي الأبهة"، وحده النموذج الذي بإمكانه صناعة الحق والعدل، من دون عناء أو مشقة وباحتراف يستحق التقدير.

فيما تحول ببطء واستسلام سهل ضابط الشرطة إلى تابع له، يتماهى في شخصيته ويبتلعه داخلها، إلى درجة يتخفى معها أي صوت مؤثر له، بما يكشف عن فراغات عميقة في جوانب شخصيته المتداعية، التي يبدأ في ترميمها اللص، فيتعدى دوره من مجرد رد الحقوق المنهوبة، إلى تعديل وتقويم حياة كاملة للضابط الذي ينصت فيها لنصائحه المدرسية، في مشاهد تعري أزماته وضعفه وتهميشه وإخفاقاته المتعددة في الحياة، والتي يستعير حلولها وأجوبتها، من خبرات اللص الثمينة.

في هذه الفترة التي شهدت فيها القاهرة قبل عقدين زخم سينما المقاولات واستمرارها، مع نجومها المشهورين، وتداعيتها على صناعة السينما وغيرها من الفنون، التي واجهت أزمة التحولات المجتمعية والسياسية، وأثرت فيها وعبرت عن الأزمة وتجلت فيها عناصرها بوضوح، بكل فسادها وانحطاطها وتراجعها، على إثر هزائم ونكبات طاولت كل شيء، عندما تضخم الفساد وتغول إلى درجة مأسسته، وسيطرة نزعة استهلاكية مفرطة يستوي معها الفكر والتجارة، والمقاول والمناضل، سياسة واحدة، الدعاية الفجة أحد عناصرها المشوقة، ونتائجها الابتذال والتشوه.

ومثلما تحول الانفتاح الاقتصادي في القاهرة مع سياسات الرئيس السادات إلى الخصخصة في عهد مبارك وبيع القطاع العام وتجميد مشاريع التنمية وإهدار كل المنتجات والصناعة الوطنية، والتبعية التامة للمستثمر الأجنبي وشروطه؛ ما أدى إلى تنامي سياسة إفقار الشعوب وإذلالاها وقمعها والمستمرة في عهد السيسي، الذي يتبني هذا الخط السياسي ويمضي به على استقامته، فتتجلى معه صورة فنية برعاية السلطة والنظام هي الأخرى، تستعير هذه العناصر وتضمرها، وتنحاز لتلك القيم ولا تكف عن انتاجها والدعاية لها.

في الدراما الرمضانية هذا العام، ظهر مسلسل "كلبش" بطولة أمير كرارة، ضابط الشرطة، الذي يشبه إلى حد كبير "حنفي الأبهة"، لكن في نسخة معدلة وجديدة، لم يعد ثمة فاصل فيها بين اللص والسلطة واختفى هذا الخط الوهمي بينهما، في ظل ما بت معروفًا ومعلنًا من تزاوج رأس المال والسلطة ومصالحهما المشتركة والمتداخلة معًا، كما لم يعد مهما التخفي داخل أطراف أخرى والتستر بها، للتعمية عن الجرائم والسرقات المنهوبة والتعديات لتجاوز الشبهات، لكن تحول الشبيه والخفي إلى معلن وواضح بحجم فساده وجرائمه، ويجيد تبريرها والدفاع عنها.

لم يسع المسلسل إلى تقديم حالة مغايرة لضابط الشرطة أو مخالفة عن الشائع، يحاول أن يخفي بصماتهم المجرمة، وترقى به عمن نعرفهم من شخوص يتمتعون بهذا القدر المتضخم من التاريخ القمعي، لكنه عمد إلى تأكيدها وتبريرها عبر تناقضات ملتوية وسخيفة، فهو ينتهك كل القيم القانونية والحقوقية والدستورية، وحتى الأخلاقية، ويعتبرها غير صالحة لتحقيق العدالة.

فيما يؤسس قانون البطش والبلطجة، في ظل شعور نفسي يستمد منه القوة والأذى، ومشحون بالانتقام، تحقنه السلطة بدعاياتها المستمرة وتهييجه ضد الخصوم السياسيين، توظيف مظلومية خاصة بهم ترفع عنهم النقد والمساءلة.

 فضلًا عن التعالي الذي يتصف به هذه الفئة من البشر، والتي تتضاعف في السياق المطروح، والذي يعمد إلى كشفه المؤلف وتأكيد تبعاته بإسقاطه على الفترة الزمنية الراهنة التي تستعيد فيها المؤسسة الأمنية بطشها وعدوانها من جديد، بعد الثورة المضادة في 30 يونيو/حزيران 2013 وهزيمة ديكتاتوريتها في ثورة يناير/كانون الثاني 2011.

طوال الحلقات يظهر هذا الضابط المتجهم والمنقول من قطاع إلى قطاع آخر، داخل مؤسسته الأمنية، بسبب تجاوزاته ومخالفاته، حيث يختلط داخله حب العمل والتفاني فيه، على طريقته الخاصة، كما حاول المؤلف تصويره، وبداخله رغبة مشتعلة في الانتقام، وتضخم كراهيته الشديدة لمن يهدرون تضحياته ولا يقدرونها من أعدائه الرئيسيين والمباشرين الممثلة في قوى الثورة، بمسمياتها وأدواتها الرائجة، سواء المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي والنشطاء، في الحركات السياسية والحقوقية، التي ساهمت بقوة في فضح عمليات التعذيب و"السلخانات" البشرية، التي تم تنصيب هياكل البشر داخلها، وانتهاك آدميتهم.

هذه المعركة التي حاول استعارتها في هذا العمل الفني التلفيقي الذي ظهر فيه ضابط الشرطة يتم حبسه ظلمًا وعدوانًا، لأنه حاول رد حق مظلوم ووقف متصديا لنفوذ أطراف من رجال الأعمال والسلطة، هذه الخلطة السحرية التي تحاول تقديم جزء من الواقعية والمصداقية، على العمل لتفادي رفضه وعدم قبول، لكن، المطلوب إثباته، هو تشويه الثورة وأدواتها التي لا تنقل الحقيقة وتسعى إلى خلخلة بنيان القوة الأمنية القمعية وفضح جبروتها والحفر أسفل النظام والكشف عن تصدعاته الداخلية وصراعاته للحصول على أكبر مساحة نفوذ واحتكار للمصالح بين عناصره المختلفة وتعرية تناقضاتها، وتبني مفهوم الأمن على الحرية والكرامة وممارسة السياسة وحقوقك كمواطن بشكل عادل.

الأمر كما بدا بدون تدليس أو محاولة تأويل مني، هو القبول بضابط شرطة عادل ومستبد، إن جاز لنا استعارة هذا التعبير المستهلك، وتبني بطشه وعدوانه والرضوخ لأوامره والخضوع لأحكامه وعدم مراجعة توجيهاته إذا لم تتطابق مع القانون.

يبقى شيئًا أخيرًا يحمل سخرية مريرة عندما ظهر ضابط الشرطة في أكثر من نصف الحلقات، التي تم حشوها بمشاهد ضعيفة وغير متماسكة فنيًا وليس فيها ترابط، تطارده الشرطة بعد تمكنه من الهرب لإثبات براءته، وهو يبدو مثل "النبي المسلح"، بتعبير ليون تروتسكي، يحقق العدل في كل أرض ينزل بها ويحارب الشر، فمرة يتصدى إلى شباب يحاولون الهجوم على فتاة، والتحرش بها وسط المقابر، ومرة ثانية، يحمي رجل من عدوان مجموعة شباب، يظهر انتماؤهم إلى الجماعات المتشددة دينيًا.

 

المساهمون