باتريك زوسكيند .. بتلك السخرية السوداء

باتريك زوسكيند .. بتلك السخرية السوداء

19 يوليو 2017
+ الخط -
على نحو متلاحق، أصدرت "دار المدى" هذا العام الترجمة العربية لكل من النوفيلا المصوّرة "حكاية السيّد زومر"، وكتاب "عن الحب والموت"، من ترجمة السوري نبيل الحفار، وبهما يكون كل ما كتبه الألماني باتريك زوسكيند (1949) – وهو محدود وفريد - متاحًا في لغتنا.

منذ منتصف الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، وكل ما نشره زوسكيند كان يحتل صدارة قائمة المبيعات من دون أن يضحّي بالجودة الفريدة لعمله وخياله وطرحه.

قبل أن يكتب زوسكيند المسرحية المونودراما "الكونتراباص" عام 1980، جرّب العمل على عدّة أعمال نثرية لم يجد من ينشرها. جرّب أيضًا سيناريوهات أفلام لكن لم يكن هناك من أراد أن يخرجها. لكن الانفجار حدث مع "الكونتراباص". فوجد العمل طريقه إلى خشبة أحد مسارح ميونخ، وقبل أن يصدر في كتاب عام 1984.

يمكن القول اليوم إنه ليس هناك مسرح في ألمانيا لم يقدّم هذه المونودراما في أحد مواسمه، وهو الذي جعلها من أكثر النصوص المسرحية التي مثلت في ألمانيا على الإطلاق، حتى إنها خلال موسم 1984 عُرضت أكثر من 500 مرة، في خمسة وعشرين إخراجًا مختلفًا.

في عام 1985 نشر زوسكيند عمله الثاني، رواية "العطر"، والتي ترجمها للعربية أيضًا نبيل الحفار. حققت الرواية فور صدورها نجاحًا ساحقًا، وبيع منها خلال عام واحد نصف مليون نسخة، وبلغت مبيعاتها حتى اليوم أكثر من خمسة عشر مليون نسخة، وهي بذلك فاقت رواية "الطبل الصفيح" لغونتر غراس.

أحدثت "العطر" صدًى كبيرًا في العالم كلهّ، لغرابة "قصّة القاتل" التي تتناولها، ونجاح الكاتب في الخلط بين الواقع والخيال، وفي أن يبث أفكارًا فلسفية في ثنايا روايته التي أخذت منحى بوليسيًا غامضًا مشوقًا. استطاع زوسكيند أن يجعل القارئ يشعر بعد فراغه من الرواية بأنه أصبح "يشمّ" العالم على نحو مختلف.

بعد "العطر" نشر زوسكيند نوفيلا بعنوان "الحمامة"، ونوفيلا مصوّرة وهي "حكاية السيد زومر". ومن حينها لم ينشر زوسكيند إلا ثلاث قصص قصيرة صدرت في مجموعة قصصية بعنوان "هوس العمق"، ثم صمت منذ مطلع التسعينيات وحتى أوائل الألفية الثالثة حين أصدر العمل النحيل في عدد أوراقه "عن الحب والموت"، ومن ثم عاد لصمته الأدبي من جديد. وهو ما يجعلك تتساءل ماذا كان يفعل زوسكيند طيلة الأعوام الماضية؟ كيف يقضي يومه؟ بأي شيء يشغل نفسه؟ ماذا يقرأ؟ وهل ما زال يكتب؟ ولماذا توقّف عن النشر؟ ويزداد الأمر حيرة حين تعرف أنه في غضون سنوات قليلة ترجمت رواية "العطر" إلى ما يزيد على أربعين لغة.

كان للمترجم السوري نبيل الحفّار فضل تعريف القارئ العربي بهذه الرواية الشهيرة التي ترجمها في منتصف التسعينيات، وصدرت منذ ذلك الحين في عدّة طبعات عن "دار المدى" الدمشقية. ثم توالت ترجمات زوسكيند عن الألمانية، فصدرت في عام 2004 مسرحية "الكونتراباص" ضمن المشروع القومي للترجمة في القاهرة، كما صدرت عدّة ترجمات عن "دار الجمل" الألمانية، وبهذا بات بإمكان القارئ العربي مطالعة كافة أعماله تقريبًا.

يبتعد زوسكيند عن الحياة العامة أو في السياسة. يوازن على نحو مثير للتساؤل بين التشويقي والجاد في النص الأدبي. وفي الوقت نفسه لا نعرف شيئًا تقريبًا عن حياته. لا أحد يعرف أين يسكن. ليس له على الإنترنت سوى صورتين يتّضح أنهما التقطتا له في الجلسة نفسها. ومن يريد أن يراسله، عليه أن يكتب لدار النشر التي تتولّى أعمالها (دار ديوغنيس السويسرية).


عن الحب والموت
هذا العمل متّصل بشكل مباشر قراءات قام بها الكاتب أثناء بحثه لكتابة سيناريو لشريط سينمائي عنوانه "في البحث عن الحب واكتشافه". وهو العمل الذي كلّفه به صديقه المخرج الألماني هيلموت ديتل. كما أن العمل أيضًا جاء متصلًا بسؤال جوهري في أعماله القليلة، عن كون الحب والموت متلازمين على الدوام.

يتلمّس العمل أروقة زمنية، حين كان الحب يسمّى أيروس، بينما كان الموت يدعى ثاناتوس. ثم ينقلنا في الوقت نفسه لأفكار فلاسفة وكتّاب وفنانين، من مختلف العصور، ربطوا بين ثنائي الحب والموت، كما لدى أفلاطون، وشكسبير، وريتشارد فاغنر، وتوماس مان.

يؤكد زوسكيند من البداية أن "الحب" يحتوي على أمر ملغم، لا يمكننا معرفته بدقة، وعلى نحو كافٍ، معتبرًا إياه عاصفة هوجاء تضرب كيان الفرد. حدّ أنه يتماهى مع الرأي القائل بأن الحب عرض من أعراض الهوس العقلي المندفع بغير لجام: "لا بدّ من فترة زمنية تراوح بين العشرين والثلاثين سنة لقراءة رسائل العشق مرّة أخرى، فستغمر وجوهنا الحمرة من شدة الخجل والسذاجة على ما كتبناه".

بتلك السخرية السوداء يتمركز الكاتب على موضوعية تناول هذه العاصفة، ويتابع: "إن من المعروف أن النقاش عقلانيًا مع عاشق أمر غير وارد، لا سيما في موضوع عشقه، فالتحذيرات التي تبغي مصلحته، والحجج التي لا تُدحض، والملاحظات الواقعية الجليّة، تتحطّم على صخرة (لكن) كبيرة: لكنني أحبها أو أحبه". ويسرد زوسكيند بعدها الوجوه السوداء للحب: الحب الكلبيّ من قبل الآباء للأبناء العاقين، الحب الروحي عند الراهبات تجاه زوجهن الرباني، الحب التعبّدي عند الرعايا للقائد.

يسأل السؤال الحائر: "لماذا كان الحب متصلًا بالموت، وعلى نحو جوهري لا فكاك منه منذ القديم حتى يومنا هذا؟". وبالاستناد إلى تناولات أدبية مختلفة، يجعلنا زوسكيند نرى كيف يمكن للحب والموت أن يكونا رحلة بحث عن حقيقتنا، حيث يظهر الحب أحيانًا أكبر من الموت، مهما كانت المخاطرة كبيرة.

المساهمون