الاحتيال عبر الهاتف... اتصالات تسلب الروس أملاكهم ومدخراتهم

2.3 % نسبة مكالمات الاحتيال الهاتفي في روسيا
21 مارس 2023
+ الخط -

يقع ضحايا الاحتيال التليفوني في شراك محتالين روس يسلبونهم أملاكهم أو مبالغ طائلة، بادعاء أنهم موظفو مؤسسات حكومية أو مصارف كبرى مملوكة للدولة، وسط سهولة الحصول على البيانات الشخصية للمواطنين من السوق السوداء.

- لم تتصور الستينية الروسية، لاريسا فلاديميروفنا، يوما أنها قد تسقط فريسة سهلة لعصابات الاحتيال الإلكتروني، وأن الأمر قد يصل إلى أن تخسر شقتها، بل وأن تصبح مدينة للبنك بمبالغ طائلة، ما يجعلها تواجه الشيخوخة بلا منزل وادخار وسط ضبابية آفاق استرداد حقوقها.

تروي لاريسا تجربتها، قائلة لـ"العربي الجديد": "أبلغني المتصل بأنه من لجنة حكومية معنية بالتحقيق في الجرائم، وأنه جرت عملية اقتراض بموجب حسابي وتم طرح شقتي للبيع بسبب القرض، ومن أجل وقف هذه العمليات، طالبني بإغلاق كافة حساباتي المصرفية والحصول على قرض وبيع شقتي".

"أعربت عن تشكيكي في صدق نواياه، ولكنه هددني باتخاذ عقوبات تصل إلى حد الحبس بحقي ما لم أتعاون مع التحقيق، كما أقنعني بأن هذه عملية خاصة عالية السرية حتى لا أطلع عليها أحدا". وبما أن لاريسا سيدة عجوز غير متزوجة وليس لها أبناء، لم تجد سوى الامتثال لتعليمات "المحقق"، وأغلقت حساباتها وحولت الأموال إلى الحسابات التي ذكرها، ثم حصلت على قرض من أكبر مصرف روسي "سبيربنك" (حكومي) وحولت قيمته أيضا، ثم طرحت شقتها للبيع فحوّلت قيمتها إلى المحتالين أيضا.

ولم تدرك لاريسا أنها تعرضت لعملية احتيال متكاملة الأركان إلا بعد إجرائها آخر التحويلات وما تلاه من فقدان الاتصال بـ"المحقق"، بينما بدأ موظفو "سبيربنك" بالضغط عليها لسداد أقساط القرض.

استعانت لاريسا بمحام ولجأت إلى جهات التحقيق بحثا عن حقوقها المهدورة، وبدأت الحديث لوسائل الإعلام وعبر مدونات على مواقع التواصل الاجتماعي، آملة في إثارة صدى لقضيتها، ولم تستسلم لليأس، مضيفة: "أصبح هناك أشخاص يساعدونني من دون مقابل في بحثي عن حقوقي، وأثق في أنه سيتم الوصول إلى الجناة أو على الأقل إلغاء صفقة بيع شقتي، ولكنني لا أتوقع أن يتم ذلك بسرعة".

وتعد لاريسا واحدة من ضحايا الاتصالات من قبل المحتالين عبر الهاتف، وبحسب دراسة أجراها مصرف "تينكوف" الروسي (خاص) فإن عدد تلك الاتصالات ازداد بنسبة 35 في المائة على أساس سنوي في ديسمبر/كانون الأول الماضي، لترتفع حصتها إلى 2.3 في المائة من إجمالي عدد الاتصالات الهاتفية في روسيا. وتوقع مصرف "في تي بي" (ثاني أكبر مصرف حكومي) أن يبلغ عدد هجمات المحتالين ما لا يقل عن 8 أو 8.5 ملايين محاولة في عام 2022.

اصطياد الضحية  

مهما بدا الموقف الذي تعرضت له لاريسا عبثيا، إلا أنه ليس فريدا من نوعه ولا يقتصر على المسنين، إذ تمكّن قائمون بالاحتيال الإلكتروني من سرقة 9.5 ملايين روبل (126 ألف دولار أميركي) من امرأة شابة تبلغ من العمر 30 عاما فقط، في مدينة فورونيج جنوب روسيا، عن طريق إقناعها بتحويل مدخراتها إلى حساب "آمن".

وانتحلت المتصلة صفة موظفة بمؤسسة ائتمانية تسأل عما إذا كانت المرأة  تقدمت بطلب الحصول على قرض، ثم قامت بتحويلها إلى "موظف جهاز الأمن بالمصرف المركزي" الذي أبلغها بأن أموالها في خطر ويجب "تأمينها" على وجه السرعة، وهو ما تكرر مع معد التحقيق الذي رصد عند تلقيه عدة اتصالات اشتبه أنها من المحتالين، سعيهم لإقناع متلقي الاتصال بأن حسابه المصرفي يتعرض لسرقة ويعمدون إلى إصابته بحالة من الصدمة، مطالبين بإبلاغهم بالأرقام الأربعة الأخيرة من البطاقة المصرفية أو الضغط على أرقام ما على هاتفه، وهو ما قد يقع فيه البعض أو لا يتجاوب معه آخرون بحسب قدراتهم الذهنية وحالتهم النفسية.

لكن الأمر يقوم على أن يُجري المحتالون كميات لامتناهية من الاتصالات حتى تزيد فرصتهم، كما يوضح المعالج النفسي المستقل، يفغيني إدزيكوفسكي، موضحا لـ"العربي الجديد" أنه: "يجب عدم المبالغة في مهارات المحتالين وقدرتهم على إقناع الشخص بقبول عرضهم عن طريق إصابته بصدمة، مثل إبلاغه بأن حسابه يتعرض لعملية مشبوهة، بل تعتمد استراتيجيهم على إجراء عدد لامتناه من المكالمات للوصول إلى نسبة ضئيلة من الأشخاص قد يتفاعلون معهم".

تسريب البيانات الشخصية  

تتفاقم الظاهرة بسبب تسريب البيانات الشخصية للروس، إذ كشف مسح أجراه معد التحقيق بواسطة محرك البحث الروسي "ياندكس" أن هناك عدة مواقع تبيع لروادها البيانات الشخصية الخاصة بأعداد محددة من السكان بأسعار زهيدة تبدأ من 5 و6 آلاف روبل (66 و80 دولارا) لقاعدة تضم بيانات أساسية لسكان موسكو، مثل أرقام الهواتف ومحال الإقامة، وتصل إلى 26 ألف روبل (343 دولارا) لقاعدة بيانات محدثة لأكثر من 1.7 مليون من سكان موسكو، مع دقة في البيانات تتراوح بين 95 و100 في المائة.

ويتيح موقع آخر فرز أصحاب أرقام الهواتف حسب النوع والعمر والمهنة، وغيرها من المعايير مثل امتلاكهم سيارة أو مزاولتهم أعمالا من عدمهما، دون أن يكشف سعر الخدمة إلا بناء على طلب اقتنائها.

وتشير تقديرات شركة "انفو ووتش" الروسية للأمن الإلكتروني إلى أن الموظفين الداخليين تسببوا في نحو 80 في المائة من حوادث تسرب البيانات الشخصية في روسيا في عام 2021، سواء نتيجة للإهمال، أو مقابل أموال من أطراف خارجية، أو انتقاما من المؤسسات التي يعملون بها، بسبب سوء ظروف العمل. ويفترض أن يخضع هؤلاء لقانون المخالفات الإدارية الروسي والذي ينص على معاقبة المسؤولين عن تسرب البيانات الشخصية بغرامة تصل إلى 75 ألف روبل (989 دولارا).

الصورة
تسريب البيانات الشخصية

 

تنامي الظاهرة  

أظهر بحث أجراه معد التحقيق عبر الشبكات الروسية للتواصل الاجتماعي، أنها تزخر بمشاركات مستخدميها حول تعرّضهم لمحاولات النصب الهاتفي والإلكتروني عن طريق تلقي اتصالات من أشخاص ينتخلون صفة موظفي "سبيربنك"، ورفض أغلبهم الحديث مع المحتالين، إلا أن هناك قصصا لاستجابة بعض المواطنين لطلبات المحتالين، مثل موافقة سيدة عجوز على تحويل مبلغ هام بسبب تعرّض ابنها لحادثة سير، ولكن ابنتها تمكنت من ثنيها عن فعل ذلك.

الموظفون الداخليون تسببوا في 80% من حوادث تسرب البيانات الشخصية

وفي واقعة أخرى، كشفت امرأة مقيمة في موسكو في بداية العقد الرابع من عمرها، فضلت عدم ذكر اسمها، عن تعرّضها لعملية احتيال عبر تطبيق "إنستغرام"، إذ اشترت منتجا مقابل 9 آلاف روبل (119 دولارا) من حساب زعم بأنه لمتجر إلكتروني، ثم توقفت الصفحة عن الرد على أي رسائل أو مكالمات.

ولم تذهب المرأة إلى الشرطة للتقدم ببلاغ لانشغالها بأمور الحياة اليومية هي وأسرتها، وإدراكا منها أن الآمال في الوصول إلى القائمين على الصفحة الوهمية ضئيلة، وعدم علمها بإجراءات ملاحقة الجناة، وانعدام جدوى الاستعانة بمحام ستفوق أتعابه المبلغ الذي خسرته كثيرا.

ومع ذلك، يعتبر الأستاذ المساعد في كلية الحقوق بالمدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، رومان يانكوفسكي، أن استئصال جرائم الاحتيال الهاتفي والإلكتروني لن يتحقق إلا في حال رفض الضحايا السكوت، حتى عن حوادث بسيطة مثل سرقة مبالغ ضئيلة، والتقدم ببلاغات إلى الشرطة عن أبسط الحوادث، بينما يسكت أغلب الضحايا عنها، مما أدى إلى انتشار الظاهرة على نطاق واسع وسقوط أغلب الحوادث من الإحصاءات، كما يقول لـ"العربي الجديد".

وتقع جرائم الاحتيال في روسيا تحت طائلة المادة 159 من القانون الجنائي، والتي تعرّفه بأنه "سرقة ممتلكات الغير أو الحصول على حقوق ممتلكات الغير عن طريق النصب أو استغلال الثقة"، وتصل العقوبة القصوى بموجبها إلى السجن لمدة عشر سنوات في حال وجود تآمر أو أسفر عن خسارة الضحية مسكنها.

توريط المساجين  

بعد انتشار تقارير إعلامية متكررة عن وجود مراكز اتصال تنشط في النصب والاحتيال من داخل الإصلاحيات الروسية في الأعوام الماضية، أعلن نائب رئيس "سبيربنك"، ستانيسلاف كوزنيتسوف، في تصريحات صحافية الصيف الماضي، عن حل المشكلة، مؤكدا أن خبراء المصرف تمكنوا من رصد الظاهرة قبل فوات الأوان، مستشهدا بإحصاءات سابقة بأن نحو 40 في المائة من مراكز الاتصال كانت تعمل من داخل الإصلاحيات والسجون. ولفت كوزنيتسوف إلى أن حوادث إجراء اتصالات بالعملة من داخل الإصلاحيات أصبحت فردية اليوم.

40 % من مكالمات الاحتيال كانت تتم من داخل الإصلاحيات والسجون

ويقر الخبير القانوني والحقوقي بافيل ماروشاك، بأن هناك عددا لا بأس به من مراكز الاتصال للمحتالين كانت تتخذ من السجون والإصلاحيات مقرات لها، جازما بأن الظاهرة ما كان لها أن تنتشر لولا تواطؤ إدارات السجون. ويقول ماروشاك، الذي سجن هو نفسه عدة سنوات في قضية ذات أبعاد سياسية، لـ"العربي الجديد": "هذه الظاهرة موجودة، وأعرف شخصيا أشخاصا اتهموا في مثل هذه القضايا، ولكن من المستبعد أن تكون مراكز اتصال كهذه أنشئت في السجون من دون علم إداراتها. صحيح أنه يمكن تهريب شريحة محمول إلى السجن، في الفم مثلا، ولكنه لا يمكن إجراء اتصالات متواصلة في الإصلاحيات التي باتت مزودة بكاميرات المراقبة في كل مكان، ما لم يتم السماح بذلك".

ويلفت ماروشاك إلى أن الصورة النمطية الراسخة في الأذهان تصور مراكز الاتصال، وكأنها مسطحات إدارية حديثة يعمل فيها موظفون ومزودة بأجهزة حاسوب حديثة، بينما هاتف ذكي واحد كاف لإجراء عدد لامتناه من المكالمات إلى أرقام عشوائية يمكن الحصول على بيانات أصحابها بسهولة في السوق السوداء.

ويقلل من المزاعم بأن المصارف نفسها قد يكون لها ضلوع في أعمال مثل هذه المراكز، مضيفا: "المصارف هي أكبر المعنيين بمكافحة الاحتيال التليفوني، لأن الناس عندما يتعرضون للنصب، يلقون باللائمة بالدرجة الأولى على المصارف، ومثل هذه الحوادث كثيرة، ولكنها تبقى خارج التغطية الإعلامية التي تقتصر على القضايا الكبرى لسرقة مبالغ كبيرة".