طارق بشير: البحث عن الذروة الموسيقية مستمراً

طارق بشير: البحث عن الذروة الموسيقية مستمراً

26 ابريل 2019
بدايتي بالموسيقى الشرقية كان من خلال طقاطيق عبد الوهاب(مرسم)
+ الخط -
بمجرد النظر في بطاقة هويته، تلفتنا حالة تنوع فريد واختلاف مدهش، ساوثهامبتون في إنكلترا هي محل الميلاد، والوالدان سودانيان بالجنسية، مصريان بالأصل. مرحلة الروضة كانت في اللغة الإنكليزية في مدارس الراهبات في الخرطوم، أما المراحل التالية فكانت باللغة العربية في الكويت التي غادرتها الأسرة إلى لندن اضطراراً عقب الغزو العراقي.

التنوع، والرحابة، والاختلاف، سمات أساسية تميز المطرب والعازف العربي المقيم في لندن طارق بشير. فدائرة اهتماماته الغنائية والموسيقية تتسع لتشمل الطرب العربي المدرك بالتسجيل، من قصائد عبده الحمولي وأدوار محمد عثمان إلى سيد درويش ومحمد عبد الوهاب، ومن القصبجي وأم كلثوم وأسمهان وزكريا أحمد، إلى فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، ومن الأداء العربي الشرقي الكلاسيكي المحض إلى التأليف والتلحين والغناء باللغة الإنكليزية. يحب أحمد عدوية، ويدافع عن حق جمهور "المهرجانات" في اختيار موسيقاهم.

ربما كان للأسرة دور في اهتمام بشير بالموسيقى والغناء، فشرائط الكاسيت تملأ البيت، والأب الذي يعمل مهندساً إنشائياً يحب عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، وأيضاً فرقة Bee Gees، ويعشق بيتهوفن. وكذلك الأم، وهي ربة منزل، تسمع أم كلثوم وعبد الحليم، كما تحب فرقة Beatles، وأيضاً The Jacson 5. أما عمته فقد احترفت الغناء قديماً، ومن خلالها تعرف طارق على صوتي أسمهان وليلى مراد. وكان تلفزيون الكويت نافذته للتعرف إلى محمد فوزي ومحمد قنديل وكارم محمود وعبد الحليم.

أنا عشقت
لكن الاهتمامات الفنية للأسرة لا تفسر اهتمام طارق بطرب عصر النهضة، أو ما يعرف بالحقبة الحمولية ومشايخ الأسطوانات. في حديث إلى "العربي الجديد"، يقول: "أول عهدي بالموسيقي الشرقية الكلاسيكية كان من خلال طقاطيق عبد الوهاب القديمة؛ "مين عذبك"، و"ليلة الوداع"، و"خايف أقول". سحرتني هذه الأعمال، ليس فقط لعذوبة صوت عبد الوهاب، ولكن أيضاً أُخذت بجمال الأداء الآلي للتخت الشرقي: نقرات العود، ورنة القانون، وصفير الناي، ووجدت في "الخشخشة" المميزة للأسطوانات القديمة سحراً لا أعلم سره. هجرت الأورغ والأكورديون، وقررت أن أتعلم وأمارس هذا اللون من الغناء دون أي لون آخر، فاشتريت عوداً وعلمت نفسي، وكان ذلك عام 1988، ثم حدث الأمر الجلل في حياتي وهو إصدار شركة صوت القاهرة لسلسلة شرائط كاسيت بصوت سيد درويش. هذا الشخص الأسطوري الذي كان جيلي يسمع به ويسمع أغانيه بأصوات غيره، ها هو الآن بصوته ونبراته يغني "أنا عشقت" و"ضيعت مستقبل حياتي". وقتها شعرت بانتقالي لطبقة أكبر وأرقى من الطرب الذي عرفته. اكتشفت أن عبد الوهاب ليس الذروة، بل هناك ما هو أجمل وأغنى".


كان عام 1990 مفصلياً في حياة طارق بشير، فقد عادت الأسرة من الكويت إلى القاهرة، فالتحق بمدرسة الأورمان الثانوية ليشترك على الفور بفريق الموسيقى. وفي هذا التوقيت، لاحظ الفنان الشاب أن الغناء الشرقي الكلاسيكي لا يحظى بأوقات مهمة في الإذاعات العربية، وانتبه إلى أن راديو إسرائيل يخصص فجر كل جمعة ساعة كاملة للتسجيلات المصرية القديمة، وعبر هذه الساعة الأسبوعية تعرف بشير إلى أعمال لسلامة حجازي وعبد الحي حلمي ومنيرة المهدية وعبد اللطيف البنا.

يقول: "كأني وجدت موسيقى وغناء يعلو مرة أخرى بالطرب الذي سمعته عند سيد درويش وعبد الوهاب، وكأن المربع اكتمل: الكلمات الجميلة واللحن الطروب والصوت المكتمل والتخت المتسلطن بالشوا والعقاد، وبعدها بسنوات، تعرفت صدفة على موقع "زمان الوصل" المتخصص في الموسيقى الشرقية الكلاسيكية، لأُفاجأ بعدد هائل من التسجيلات لكل أساطين الطرب: المنيلاوي وحلمي والصفتي وغيرهم، وبدأ الهوس الحقيقي، فأنا الآن أمام مكتبة غنية تحتم عليّ أن أسمع الكثير ثم أحفظ وأتعلم وأقارن وأمارس".



أكسفورد مقام
كان من المهم أن يترجم طارق بشير اهتمامه الكبير بالغناء الشرقي الكلاسيكي وطرب عصر النهضة إلى مشروع واقعي، فشارك عدداً من مقدري هذا الفن، في مقدمتهم عازف الكمان الكويتي أحمد الصالحي، وعازف القانون الإنكليزي مارتن ستوكس، والمطربة المصرية يارا صلاح الدين، تكوين فريق "أكسفورد مقام" .

يوضح بشير الهدف من تدشين الفريق: "أردنا تكوين تخت شرقي يبحث عن أسلوب في الأداء مستمد من مطربي تسجيلات العشرينيات والثلاثينيات، من دون الوقوع في فخ النقل الحرفي للموسيقي، أردنا فهم الأسلوب والمقامات وكيفية التعامل معها. البوليفونية والانسجام اللحني بدلاً من توحيد الجمل، الارتجالات في ما يسمح فيه اللحن من دون تأثر مباشر بالأصل، ولكن مع الأمانة في النقل والحفاظ على المسار النغمي حرصاً على أداء الموشحات بالأسلوب المصري وليس الأسلوب الشامي الطاغي على الأداء منذ الستينيات، وكذلك الأداء في الأدوار والمواويل، بهدف خلق حالة هادئة وطربية تجذب السامع من دون أن تزعجه أو تشعره بالتكلف والتصنع في الأداء، وأن تثبت أن هذا الفن ليس بالضرورة أن يكون نخبوياً، بل هو مزيج بين أغاني الحضر والريف المصري، وقواعد الفن المدروس، والأداء البسيط الذي ينم عن ثقافة المقامات والشعر أو الزجل المصري، والتي كان يجتمع عليها أهل التلاوة والغناء وبالأخص في مصر".

يضيف: "على الرغم من تخصص "أكسفورد مقام" في الموسيقى والغناء الشرقيين الكلاسيكيين، إلا أن الفرقة ضمت أعضاء من عدة جنسيات من مصر وأيرلندا وبريطانيا واليونان وكردستان، فكل عضو في الفرقة يجد في هذه الموسيقى شيئاً يذكره بموسيقاه الفلكلورية، وبذلك نقلنا هذه الفكرة لكي تعرض أيضاً أمام جماهير من كل الجنسيات والملل".


تتسع اهتمامات طارق بشير الغنائية لتضم، إلى جانب الطرب الشرقي الكلاسيكي، ألواناً من الغناء الحديث والمعاصر؛ فقدم الفريق أغنيات ومقطوعات كلاسيكية مختارة بعناية لتلائم الآذان الحديثة التي لا تملك الصبر ولا التدريب على تناول وجبات دسمة متتالية، مع تبسيط الأداء ليحمل القدر المناسب من الزخارف والحلي، ويعتمد على حلاوة الألحان وجمال الكلمات قبل الاستعراض وفرد العضلات، ومن خلال تجارب حفلات تنطلق بالتخت النهضوي والوصلة الكلاسيكية، وتنتهي بعبد الحليم حافظ ولحن الوفاء بأوركسترا كامل.

يرى بشير أن العامل المشترك بين أعضاء "أكسفورد مقام" هو الحرص على فهم هذه الموسيقى الكلاسيكية وكيف تبدلت وتغربت عبر عشرات السنين مع تغير النسيج الاجتماعي والسياسي والفني في مصر، فدخول الأسطوانة التجارية كان عاملاً مهماً في هذا، وأيضاً دخول الإذاعة الوطنية ثم صناعة الأفلام. يقول بشير: "نحن نسرد هذه التغيرات عن طريق الأغاني لكي يتلقى المستمع رحلة كاملة في الموسيقى المصرية من عبده الحامولي إلى عبد الحليم حافظ مروراً بسيد درويش وعبد الوهاب وزكريا أحمد وأم كلثوم".


وللغرب نصيب
يمارس بشير الغناء والتلحين باللغة الإنكليزية أيضاً، وهو أمر نادر أن نراه من فنان عربي، فضلاً عن أن يكون أحد أهم المولعين والمهتمين بالموسيقى الشرقية الكلاسيكية. في هذا السياق، يقول: "أسست مع أصدقاء لي فرقة تجمع بين أساسيات الموسيقى الغربية مع مزيج من الموسيقى الفلكلورية لشرق أوروبا والبحر المتوسط، بدأنا بحفظ أغاني Rhytham&blues الريذم أند بلوز من الثلاثينيات وأغاني الفلكلور الإنكليزي القديم، ولحنت بعض المقطوعات الموسيقية كي تتخلل هذه الأغاني، ثم بدأت أكتب وألحن أغاني مشابهة لأغاني الثلاثينيات الأميركية كلاماً ولحناً، ينبعان من رحلة استماع طويلة بحكم أني أمتلك مكتبة أسطوانات فونوغراف أميركية وإنكليزية، ثم بدأت أُدخل مقطوعات تركية عثمانية، لكن بإعادة تخيلها وصياغتها كي تخرج بشكل معاصر يلائم طابع الجمهور الذي يتابع فرقتنا وهذا النوع من الموسيقى، ومن نجاح هذه التجارب تشجعت على صياغة كلمات وألحان بالعربية والإنكليزية على شكل قوالب جديدة، منها ما يشبه الموشح ومنها ما يشبه أغاني الـ courtney الأميركية، ولكن باستعمال آلات غير مألوفة في هذه الألوان. في كل الأحوال، أسعى إلى ألا أشوّه أي شكل موسيقي عريق، عربياً كان أو أجنبياً، فإذا لم يكن اللحن يحترم أصل فكرته فسيلقى في سلة النفايات".


دفاعاً عن "المهرجان"
يرفض بشير الهجوم المستمر على ما يعرف بـ"المهرجانات"، ويرى أنها ظاهرة تعبر عن فئة معينة من المجتمع المدني في مصر، وشعبيتها الكبيرة تعني أنها وصلت بنجاح للتعبير عن هذه الفئة من المجتمع، لكنه يرى أن استمرارها مرهون بتطورها، وبمدى اقترانها بالأوضاع الاجتماعية الحالية، وتغيرها مع التغيير الاجتماعي، وهو ما يسمي في الغرب بـghetto music.

يقول: "أحترمها لأني لا أملك التجربة الاجتماعية كي أحكم عليها، ومن الخطأ أن يحكم موسيقي كلاسيكي يؤدي بيتهوفن مثلاً على موسيقي وأغاني الراب (Rap)".

موقف طارق بشير من أغناني المهرجانات دفعنا إلى سؤاله عن رأيه في ما يعرف بالأغنية الشبابية، فأكد أنه على خصام معها بسبب فتورها وضعفها في السنوات العشر الماضية، فالألحان تتكرر، والكلمات تزداد فقراً، واستعمال المقامات الموسيقية فيها ضئيل: "أجد الأغاني الشبابية اليوم لا تعبر عن شيء سوى إحداث ضجة مؤقتة على مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات الفيديو كليب، ثم تتبخر وتختفي من دون أثر بعد عدة أشهر، ولكن أتأمل خيراً في الجيل الجديد من الشباب لأنه يبحث عن شيء مختلف وأشكال جديدة، ينقصه فقط الدعم والتشجيع".

كلاسيكية حية
يحرص طارق بشير على حيوية ما يقدمه من ألوان غنائية، فهو يقدم فنه لجمهور متفاعل، ما يحتم التساؤل عن مدى قبول الجمهور الحالي للغناء الشرقي الكلاسيكي، بل وحجم فرص بقاء هذا اللون واستمراره. يجيب بشير: "في بلادنا العربية هناك ظاهرة الـpop culture، بمعنى أن لوناً من الغناء يظهر لكي يطغى على ما قبله ويحل محله، وللأسف منا من يسمي هذا تطوراً، وتطور الشيء هو استحداث جديد من داخل هذا الشيء وليس الاستبدال به. كان أسلوب وموسيقى عصر النهضة في الصدارة، وشيئاً فشيئاً وجدنا أنفسنا مع الأغنية الشبابية التي صارت تسيطر في قنوات الفيديو كليب، فاستمرارية أي لون غنائي تعتمد على جمهوره المتلقي له وعلى إحساس حامله بمسؤولية عرضه بما يليق به وبما يتفق مع سعة صدر هذا المستمع، فلا أظن أننا سنرى جمهوراً لمطرب يغني ثلاث وصلات، كل وصلة منها ساعة في الخميس الأول من كل شهر كما كانت تفعل أم كلثوم، ولا أعتقد أننا سنشاهد أفلاماً غنائية كأفلام عبد الحليم وشادية، ولن نرى سرادقات للأفراح يلتف فيها المعازيم حول مطرب وتخته وهو يعيد ويرتجل في الدور. هذه أجواء كانت مصاحبة لحالة سياسية واجتماعية وثقافية عاشها القطر المصري في الفترة ما بين 1860 إلى 1970، فعودة أو استمرارية الغناء الكلاسيكي بشكله القديم مكانها محدود، بمثابة أرشفة تاريخية، ولكن ما يمكن ويجب أن نعمل عليه ويكون له استمرارية هو القواعد والأصول التي ورثناها من عقود العمل في الموسيقى الشرقية، ومن هنا ينطلق الدارس لإنتاج شخصي، لحناً كان أو غناء أو عزفاً، ومن الضروري أن يجد هذا اللون مكاناً في قنوات التلفزيون وفي العروض الرسمية".

مشهد غنائي متوتر

يرى طارق بشير أن المشهد الموسيقي الحالي يتسم بالتوتر، ويبحث عن هوية وأشكال جديدة من دون دراية أو خطة لكيفية هذا التجديد وطبيعته، لدينا فرق الغناء الشبابية كاسكندريلا وحكايات وغيرهما، فرق تسعى إلى تقديم نكهة موسيقية تراثية مع تجديد المضمون، ولدينا ما يعد على الأصابع من فرق التخت الشرقي التي تتعامل مع الموسيقى النهضوية، وكذلك الفرق الفلكلورية، فمثلا المرحومة جمالات شيحة تمتعت في الفترة الأخيرة بجماهيرية عالية من جيل الشباب، وكأنهم وجدوا في بساطة وجمال الأداء ملجأ من الموسيقى الصاخبة المليئة بالآلات الموسيقية والتفرنج في الأداء.


حماس بشير للشباب والأجيال الجديدة خلق لدينا تساؤلاً إن كانت هذه الأجيال تجد مؤسسات تعليمية قادرة وصالحة لتخريج أجيال تهتم بالغناء الكلاسيكي، ليجيب: "إذا كان معهد الموسيقى العربية وبيت العود العربي وغيرهما من المؤسسات تعترف بجدارة عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي وداوود حسني والموجي والطويل وبليغ وغيرهم، فممكن أن ننطلق من هنا، ليس بأن يتعلم الطالب إنتاج هؤلاء، بل بأن يتعلم ما تعلموه عندما كانوا طلاباً في معهد فؤاد الأول، أو حتى قبل ذلك؛ حين كان المعلم شيخ تواشيح وتلاوة، فكل هؤلاء تعلموا الموسيقى الشرقية بالطريقة أو المنهج الذي تعلم به موسيقيو مصر لعدة قرون، المقامات وخباياها، والغناء وأصوله، والضروب وأشكالها والآلات وطريقة عزفها، وهناك حصيلة غنية جداً من المواد التعليمية تركها لنا من قبلنا.. علينا الرجوع إلى مناهج معهد فؤاد الأول والبحث فيها جيداً".

المساهمون