المدينة العتيقة... عروس تونس في رمضان

المدينة العتيقة... عروس تونس في رمضان

15 يونيو 2016
تفوح منها رائحة حضارات متعاقبة (Getty)
+ الخط -
تحتفي المدينة العتيقة في تونس بزوّارها خلال شهر رمضان بكلّ سخاء، صوامعها المتقاطعة والمتناظرة تغدق عليهم تراتيلاً وروحانيّات، بيت الشعر والنادي الثقافي "الطاهر الحداد" و"الراشدية" و"الخلدونية"، وغيرها من دور الثقافة والمتاحف العتيقة، تُقدّم المسامرات والعروض الثقافية للوافدين عليها إثر الإفطار، أما بقية أزقّتها الضيّقة فإنّها تتحول إلى أودية بشرية في شكل حلقات مجتمعة، حول طاولات صغيرة تزينها حلويات تقليدية، والقهوة التونسية التي لم تشوهها المكننة. 

صممت المدينة العتيقة في شكل أنهج ضيقة تحرسها أسوار عالية، ومآذن الجوامع تنير درب المارة في أزقتها، أبوابها كثيرة يستعصي عدّها على من لا يعرف خفايا وقصة كل باب منها، يقول الحاج الهادي لـ"العربي الجديد" وهو ابن "باب منارة"، ولد بها وكبر وترعرع فيها، "أن المدينة تحمي نفسها بنفسها من خلال شكلها وتصميمها، لذلك ترى الراغبين في السهر يتوافدون عليها دون خوف أو توجس، لأنّ من ينوي إفساد السهرة، يجب أن يكون عالماً بكل أنهجها ومسالكها المتشابهة، والتي تبدو لمن لم يأنسها متطابقة أحياناً". يقولُ المؤرِّخون، إنَّ المدينة العتيقة هي ضمير العاصمة تونس وروحها الجميلة، تفوح منها رائحة حضارات متعاقبة، وتاريخ عريق. معالم وآثار فوق ربوة تمتد على ما يقارب 3 كيلومترات مربعة، تختزل عمق المدينة وأسرارها. مركز المدينة العتيقة، هو الجامع الكبير "الزيتونة المعمور"، يقصده الوافدون من الأبواب الكثيرة والشهيرة: "باب بنات" أو "باب العلوج" أو "باب الفلّة" أو "باب الجزيرة" أو "باب بحر" أو "باب منارة" أو "باب الأقواس" أو "باب سعدون".

ولا تزعج آلات العود والأورغ والطبلة الساكنين، رغم أن السهرات لا تنتهي إلا في ساعة مُتأخِّرة من الليل، غالباً قبل ساعة من الإمساك عن الطعام، ويستبشر تجار المدينة العتيقة بالشهر الكريم، ما يناهز الأربعين سوقاً: سوق الذهب "البركة"، سوق العطارين، سوق النحاس، نهج البلار( أي المختص في المنتوجات البلورية)، سوق الدباغين، السراجين… تنتعش أغلبها في شهر رمضان وتبلغ ذروتها في نهايته، حيث تزدهر تجارة الذهب والمصوغ للأفراح والخطوبات، إضافة إلى تجارة الملابس للعيد. باعة الصناعات التقليدية تزدهر تجارتهم بتوافد الزوار، وهم عامة من فئة الشباب، فتباع "الشاشية" التقليدية (طاقية حمراء مصنوعة من الصوف، وتُصبَغ أساساً باللون الأحمر، إلا أنّها صارت تُصبَغ بألوان أخرى زاهية لتلاقي إقبال الشباب) وتقبل عليها الشابات تماماً كإقبالهن على المصوغ التقليدي المصنوع من الفضة.


في المدينة العتيقة، وفي الأزقّة الفاصلة بين المآذن الكثيرة، قصور البايات ومنازل الأعيان، فُتحَت في أغلبها للعموم، وصارت إمّا دوراً للثقافة، أو متاحف أو مطاعم فاخرة، وتشهد إقبالاً كثيفاً خلال رمضان. أما المحلات الصغيرة للمأكولات الشعبية التقليدية، فإنها تصبح مقصد مرتادي المدينة إثر الإفطار. ويؤكد صبري، صاحب محل للفطائر والحلويات بنهج حمودة باشا، الرابط بين منطقة القصبة وعمق المدينة العتيقة، بأنّ المحل يصبح كخلية نحل إثر الإفطار، ويستوقف المارة والعابرين برائحة المأكولات التقليدية، ويجني في سويعات ضعف ما يجنيه في يوم كامل من العمل خلال الأيام العادية. 

هنا، في بضع الكيلومترات المربعة التي تمتد عليها المدينة العتيقة التي لم تطلها زحمة السيارات، ولا صخب واجهات المحلات الكبيرة، ولا البضائع المستوردة، وظلت محافظة على طابعها الفريد. لا مكان إلا للأهازيج والغناء والفرح، بين أغنيات أم كلثوم والهادي الجويني وعبد الحليم حافظ وصليحة ومحمد الجموسي وصولاً إلى لطفي بوشناق وأمينة فاخت وصابر الرباعي. بقيت هذه الرقعة تونسية تماماً حتى نخاعها، لا تخشى إرهابا ولا إجراما ولا أزمات سياسية، هي ركن مشع من البلاد، وفيّ لتونسيته بكل تفاصيله.

دلالات

المساهمون