"لا بُدّ أنْ تكون الجنّة" لإيليا سليمان: مرارة العالم

"لا بُدّ أنْ تكون الجنّة" لإيليا سليمان: مرارة العالم

25 مايو 2019
ثالث مُشاركة لسليمان في المسابقة الرسمية لـ"كانّ" (أندرياس رنتز/Getty)
+ الخط -
بعد نحو 10 أعوام على توقّفه عن الإخراج، حقّق الفلسطيني إيليا سليمان (1960) "لا بُدّ أنْ تكون الجنّة"، المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدوليّ (عُرض يوم الجمعة، 24 مايو/أيار الحالي، للمرة الأولى دوليًا). هذه ثالث مُشاركة لسليمان في المسابقة الرسمية للمهرجان نفسه، بعد "يد إلهية" (2002 ـ جائزتا لجنة التحكيم و"الاتحاد الدولي للنقّاد") و"الزمن الباقي" (2009).

في جديده هذا، خرج إيليا سليمان إلى حدّ ما من فلسطين، التي حَصَر فيها أفلامه السابقة، محتفظًا في الوقت نفسه بالناصرة كمكان للانطلاق والعودة. لكنّ الفيلم يمضي إلى فضاءات ذات محاور أبعد وأعمق، متّجهًا إلى باريس ونيويورك، ومُوسّعًا الرؤية، ومتجاوزًا الحدود، ومتعمّقًا في الأفكار، مُكسبًا إياها أبعادًا إنسانية كثيرة، خارج الوطن والجنسية. فالعالم الذي يتناوله سليمان، ووفقًا لرؤيته وكلماته، صار فعلاً صورة مُصغّرة عن فلسطين، لا العكس.

"لا بُدّ أنْ تكون الجنّة" سيرة ذاتية لإيليا سليمان، الباحث عن مستقبل وطنه فلسطين، ببحثه عن مستقبله هو. إنّه رحلة حياته، وما انتهت إليه مسيرته السينمائية كمخرجٍ يبحث عن تمويل لمشروعه الجديد، فيواجه رؤية نمطية إنتاجية ترفض طرحه، إمّا لأنه عن الصراع، وإمّا لأنه غير فلسطيني بما فيه الكفاية. أثناء تلك الرحلة، ترصد عينا المخرج، كالعادة، العالم الخارجي وعبثيته وسورياليته، وتغوصان ـ في الوقت نفسه ـ في صميم الشخصية نفسها، فتُفصحان عن مكنوناتها، من دون قول كلمة واحدة عن كينونتها.

بين ذاته ووطنه، لا يغفل إيليا سليمان حدود العالم الذي نعيش فيه، والتغيّرات الطارئة عليه: العنف والأنانية والمادية والتنمّر والتربّص بالآخر. وقبل كلّ شيء، الأسلبة المُعاشة يوميًا. الاغتراب حاضر بقوّة، إنْ في فلسطين أو في فرنسا وأميركا. والاغتراب ليس فقط بالنسبة إلى المخرج فحسب، إذْ هناك اغتراب كونيّ، يضع يده عليه بأكثر من صورة، أبسطها تلك الشوارع الخالية من البشر، إلاّ نادرًا.

الجميع يبحثون عن هوية، بشكل أو بآخر، وليس الفلسطيني فقط، أو إيليا سليمان، أو بطل الفيلم. لكنْ، أي هوية، في خضم عالم لا يرحم؟ عالم تحوّل إلى دولة قمعية بوليسية باتّساع الكون، حيث التفتيش المُهين، وأجهزة الفحص والرقابة المنتشرة في كلّ مكان، بينما يحمل الأفراد السلاح في الشوارع، وأثناء التبضّع في الأسواق وركوب سيارات الأجرة، من دون أن يُلفِت هذا انتباه أحد. أما من تتظاهر من أجل السلام، أو ترسم على جسدها علم فلسطين، تُطاردها الشرطة وطائرات الهليكوبتر.




بجلاءٍ، يستهجن إيليا سليمان القمع، ويسخر من الأمن والشرطة، ويُبرز ـ بسخرية مريرة ـ مدى الرعب من حروب مجهولة، إذْ تسير الدبابات في شوارع باريس، وتتعالى الأصوات المزعجة للطائرات الحربية في سماء المدينة، حتى وإنْ اتّضح بعد ذلك أن هذا كلّه يحصل احتفاءً بالثورة. والتمعّن عن كثب في كوميديا سليمان، المتجلّية في جديده هذا، ينتبه إلى أنها مغلّفة، غالبًا، بالسياسيّ، وفي العمق هناك الإنسانيّ المثير للحزن والرثاء، بشكلٍ سوداوي.

البصمات المميّزة لسليمان، الموجودة في أفلامه السابقة، واضحة بقوّة في "لا بُدّ أنْ تكون الجنة"، بدءًا بالسيناريو والتمثيل (يؤدّي الدور الرئيسيّ)، والافتتاحية المُعتادة (مشهد كوميدي متعلّق بقدّاس الفصح)، المنفصلة أو شبه المنفصلة عن مجريات الفيلم وأحداثه، وصولاً إلى النهاية. كما أنه يتعمَّد الحكي عبر الصُوَر، لذا فإنّ الحوارات مُقتضبة عامة، إنْ وُجدت. وإزاء الفوضى والعبثية اللتين تعمّان الحياة، تلوذ الشخصية الأساسية بالصمت والتأمّل، ولا تفتح فمها إلاّ في الثلث الأخير من الفيلم، إذْ تضطرّ إلى الإجابة على سؤال سائق سيارة الأجرة عن بلدها: "من الناصرة. أنا فلسطينيّ".


المُفارقات طريفة ومُضحكة من دون مجانيّة ولا عشوائية، تنبع من المواقف الدرامية شبه المتّصلة/ المنفصلة، المتراكمة على الشاشة في بناء سردي خطي الاتجاه. أحيانًا، يتفجّر الضحك، الذي يصل حدّ الـ"فَارْس"، بسبب حوارات جدّية ساخرة بين الشخصيات العابرة، أو تلك المُوجّهة إلى البطل/ المخرج.

رغم إثارته الضحكات، يصعب تجاوز الحزن المخيم في الفيلم، ويتعذّر اجتناب النبرة اليائسة على نحو جلي، حتى على وجه البطل/ المخرج. ورغم الرؤية المتشائمة إزاء العالم والبشر، التي يبدو أن إيليا سليمان بلغها من دون رجعة، إلا أنّ الفيلم مُشوِّق وممتع للغاية. لذا، تصل رسالة سليمان بسهولة بالغة إلى المُشاهد.

بذلك، يُحقِّق أهدافه من دون عناء، وبلا أي افتعال أو تصنّع. ففي جديده، تفاصيل ذكية وكثيرة، تنمّ عن تفكيرٍ وتعمّق كثيرين في الكتابة، وعن براعة توظيفهما. بالإضافة إلى الرؤية البصرية المميّزة للغاية، والمتمثّلة في عمل مدير التصوير سُفيان الفاني، وبتوظيف الكادرات والإطارات، والتنقّل بين لقطات عامة وأخرى متوسّطة وقريبة لوجه البطل/المخرج. هناك تميّز لونيّ لافت للانتباه أيضًا، وحرفيّة اختيار أماكن التصوير، في أكثر من مشهد، ما يجلعها تحفًا تشكيلية في عصر النهضة.

المساهمون