مغامرة مارتي هيلدي: الصمت وسيلة للتواصل

مغامرة مارتي هيلدي: الصمت وسيلة للتواصل

08 يناير 2020
ريمو ساغور: الصمت "الاسكندينافي" فعل اعتراف (من الفيلم)
+ الخط -
رغم ابتعاد المخرج الإستوني مارتي هيلدي (1987)، في فيلمه الأخير "صمت اسكندينافي"، عن مناقشة قضايا كبرى، أو حتّى مقاربتها، إلاّ أنّ فيلمه هذا مهمّ، لجمالياته، إذْ ليس ضرورياً أنْ يكون الموضوع عميقاً جداً، أو فلسفياً مُعقّداً، أو مُركّباً نفسياً، ليكون مُهمّاً. بالتالي، يمكن تناوله كدرسٍ في كيفية صنع فيلم.

لا يخلو "صمت اسكندينافي" من الدراما، التي تحتلّ مرتبة متأخرة في لائحة اهتمامات هيلدي، والسيناريست المساعد له، ناثانيل برايس. يوظّف المخرج أدوات سينمائية عدّة بوعي واقتدار لافتين للانتباه، لإعلاءِ شأنِ البصريّ. ولتحقيق هذا، يستغلّ خبرته وقدرات مُديري التصوير ستين يوهان ليل وإيريك بولوما، فيصنع تنويعات بصرية ترتبط بتيمة الصمت، بذكاء وحرفية شديدين. فكرة التنويعات موسيقية أساساً، تعني عزف المقطوعة الموسيقية نفسها باختلافاتٍ طفيفة، عبر توظيف آلاتٍ بعينها، أو إلغائها.

الصمت، بأشكاله العديدة، بطل أساسي. هناك أيضاً التصوير والتكرار، وهذا الأخير يُسخّره هيلدي لخدمة الصمت، وتقديمه في أجلى صُوره وأعمقها. التكرار يعني سرد الحدث نفسه بتكرار المَشاهد نفسها، أو بتقاطعها وتطابقها أحياناً. اختيار التيمة هذه مترافق والابتعاد المطلق عن أيّ تماثل أو تقاطع مع "راشمون" (1950)، للياباني أكيرا كوروساوا، أو مع أيّ فيلم آخر يقدِّم فكرة أو يروي قصّة من زوايا مختلفة في كلّ مرة يسردها فيها، لإبراز وجهات نظر متباينة.

في "صمت اسكندينافي"، هناك خيارات فنية لا يمكن إغفالها لشدّة بروزها، يلجأ المخرج إليها لتمييز فيلمه وجعله جدّياً وأصيلاً. أوّل الخيارات المونتاج (ياك أولينو)، المتفنّن في الانتقال بين اللقطات المُقرّبة لوجوه الشخصيات (هي كثيرة جداً)، والتنويع بينها. وهذه ملتقطة من أكثر من زاوية، بأحجام متفاوتة. أخيراً، تضفير ما سبق مع غيرها من لقطاتٍ علوية تُصوّر الغابة الاسكندينافية بأشجارها الميتة، والثلوج المُتجمّدة، والأنهار الداكنة، انتهاءً بانتفاء مظاهر الحياة في الغابة خارج السيارة.

التنوّع الثري في أحجام اللقطات وزواياها يُغني الفيلم بشكلٍ فريدٍ، خصوصاً أنّ اللقطات المُضفرة مع المَشاهد الرئيسية غير موضوعة في السياق عرضاً أو بطريقة مجانية. أحياناً، تكون مُكمِّلة للصمت أو للحديث الفردي. أحياناً أخرى تزيد من سكون الصمت وجموده، وتُعمّقهما. الحديث الفردي في السيارة قليل. لا شخصيات، بل اثنين فقط. هناك صقيع وثلج كثيف وغيوم رمادية. هناك الأسود والأبيض، ولهذا أثرٌ عظيم في تكثيف مقطوعة مغايرة على أوتار الصمت، وتعميقها والعزف عليها، بشكلٍ لا يُشبه غيره أبداً، خصوصاً في الدول الاسكندينافية، كما تقول إحدى الشخصيتين.

الموضوع بسيط، يتميّز باقتصاره على سرد غامض ومبتور ومبعثر لأحداثٍ ماضية، اعتماداً على ذاكرة مشوّشة ومضطرّبة للبطلين، اللذين لا حوار بينهما. محور الحديث الفردي غير واضح بشكلٍ جلي تماماً. أحياناً، يبدو حديث أحدهما مجرّد حديث، من دون مناقشة شيء، أو طرح مسألة. الصعوبة ناجمة عن تحدّث كلّ شخصية منهما على حدة، فتصمت الأخرى كلّياً. بين لحظة وأخرى، تظهر ردود فعل الطرف الآخر. أمرٌ تطلّب مهارة بالغة من بطلي الفيلم للتعبير بقسمات وجهيهما، ونبرات صوتيهما. ما يزيد الصعوبة أنّ الأحداث تدور في سيارة. وطول الوقت، هناك وجهاهما وصوتاهما، ولا مجال للتعبير بلغة الجسد.
في منتصف الفيلم، يظهر أنّ الابن قتل والده، من دون توضيح إنْ يكن القتل عمداً أو خطأ. الأسباب مجهولة. الأم متوفاة، من دون معرفة كيف ومتى. كلّ ما يُعرَف أن هناك شقيقاً وشقيقة، التقيا بعد فراق أعوامٍ طويلة، إثر حادث عائليّ أليم. يتجنّب مارتي هيلدي ذِكر الحادث وتفاصيله، فالفيلم لا يستكشف الماضي ولا يحاكمه، رغم أنّ الماضي يُثقل على الحاضر، والشقيقين.

تنقسم مدّة "صمت اسكندينافي" (80 دقيقة) إلى 3 أقسام: في الدقائق الـ30 أولى، يتحدّث توم (ريمو ساغور)، الخارج لتوّه من السجن. ثم هناك 30 دقيقة أخرى لجينا (ريا ليست)، التي لم تلتقِ شقيقها منذ أعوام مديدة، وهي سبب حدوث المشاجرة المؤدّية إلى وفاة الأب وسجن الشقيق. ثم يسود صمتٌ مطبق بينهما حتّى نهاية الفيلم، مع تعقّب سيارة شرطة لهما، فتُخبر جينا شقيقها أنّها سرقت السيارة للقائه، وأنّه لم يكن لديها خيار آخر. تكلّم توم عن الحادث باقتضاب، ثم استعاد ذكريات الطفولة. يلوم نفسه لوهلة، لأنّه لم يكن هناك، أو لأنّه لم يحمِ شقيقته. يُخبرها عن حياته في السجن، والخبرة التي اكتسبها، ومفهوم الحرية ومعنى الصمت. بدورها، تتأسّف جينا عمّا سبّبته له، وعن ذكرياتها صغيرةً، وأعياد الميلاد، والحادث، وحياتها المدُمّرة من دونه، وعن ردّ فعل المجتمع. هي أيضاً تذكر الصمت الذي، كما تقول عرضاً، "ربما كان وسيلتنا الوحيدة والصحيحة للتواصل".
هل جرى فعلاً هذا الحديث الفردي، أو المونولوغ، بين توم وجينا؟ أحياناً، يبدو الأمر كأنّه محض تخيّل، أو حوار يُفترض به أن يدور في ذهن كلّ واحد منهما.

رغم بساطة الحبكة وانتفاء الحوار، ورغم أنّ الأحداث تدور في مكان مُغلق (إذا جاز التعبير)، ورغم تكرار مناظر الصقيع في الخارج، إلا أنّ "صمت اسكندينافي" غير مُمل، بل هناك استمتاع شديد بما يجري، وفضول لمعرفة ما الذي سيحدث، وكيف سيتطور الفيلم، خصوصاً عند اتّضاح أنّ الأمر غير متعلّق بحبكة أو حكاية عادية، وبشخصيات مألوفة، بقدر تعلّقه بكيفية تقديم الشخصية، وإبراز مشاعرها وما تكتمه، وتقديم الصمت بلغة بصرية فائقة الجمال.

المساهمون