"بينبول" لكنتمير بالاغوف: سيناريو رائع وتصوير بديع

"بينبول" لكنتمير بالاغوف: سيناريو رائع وتصوير بديع

06 فبراير 2020
فيكتوريا ميروشنيشينكو: نوبات قاتلة (كريستوف سيمون/فرانس برس)
+ الخط -
في جديده "بينبول"، قدّم الروسي كنتمير بالاغوف (1991)، استعارة بالغة القوّة للمرأة الروسية في زمن الحرب العالمية الثانية، التي لم تهزم المرأة الروسية فقط، بل حطّمتها نفسياً وجسدياً وعاطفياً، تاركة لها حياة هشّة وغير مستقرة. مع ذلك، حاولت المرأة الروسية استعادة حياتها وروحها، وكلّ ما سلبته الحرب منها.
بصدق بالغ، استعرض "بينبول" علاقة صداقة بين امرأتين، قامت على احتياج إنساني وحب عميق، وحملت في الوقت نفسه تناقضات شتى، فاقمتها الحرب. ورغم التوازن الدرامي في صوغ مأساوية العلاقة، إلا أنّ الشحنة العاطفية التي تصل المُشاهد بالغة الإيلام، في الفكرة والشخصيات ومَشاهد كثيرة. ورغم أنّ الفيلم مُكرّس للنساء، ومتمحور أساساً حولهنّ، إلّا أنّ كلّ ما فيه ناطقٌ برسالة مفادها أنّ روسيا ـ رغم فوزها في تلك الحرب، ودحرها النازيّ وجيشه ـ عاشت حالة انكسار حادّة، وأنّ العطب ضرب أرواح الجميع، والهزيمة غلَّفت حياتهم.

بشكل أساسي، اعتمد السيناريو على كتاب "ليس للحرب وجه أنثوي"، للصحافية والكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش (نوبل 2015)، الصادر عام 1985 (ترجمه إلى العربية نزار عيون السود، وأصدرته "دار ممدوح عدوان" عام 2016). الكتاب اعترافات وذكريات ترويها نساء روسيات شاركن في الحرب، فأكثر من مليون امرأة كانت لهنّ أدوار لا تُنسى، في الخطوط الأمامية وداخل المدن وفي البقاع المُحرّرة أو المُحتلّة: طبيبات وممرضات وسائقات وقنّاصات وغيرهنّ، حاربْنَ جميعهنّ إلى جانب الرجال. عند انتهاء الحرب وتحقيق النصر، نُسِيَت جهودهنّ وتضحياتهنّ.

سافرت سفيتلانا أليكسييفيتش آلاف الأميال، وزارت مئات المدن للقاء هؤلاء النسوة. سجّلت شهاداتهنّ عن الأهوال التي كابدنها في الحرب. أحياناً، اقتصرت الشهادات على سطور قليلة، شكّلت فقرة واحدة. أحياناً أخرى، امتدت لصفحات. في "ليس للحرب وجه أنثوي" آلام ومرارات ووحشية وفواجع، يصعب تصديقها أو تخيّل حدوثها، لفرط هولها وعبثيتها. قتل وذبح واغتصاب، وعاهات مستديمة في الجسد والروح. فقر وتشرّد ومجاعة. أكل كلاب وقطط مثلاً. قتل وخنق رُضّع وأطفال، على أيدي الغير، أو على أيدي الأمهات أنفسهنّ، خشية القتل أو الأسر.

من هذه الشهادات الثرية والمتنوّعة، استوحى كنتمير بالاغوف، وشريكه في كتابة السيناريو ألكسندر تيريخوف، سيناريو "بينبول"، باختيارهما وقائع واردة فيها، ودمج أحداث وشخصيات عديدة بعضها ببعض، وابتكار مواقف ومشاهد غير موجودة في الكتاب. فبالاغوف وتيريخوف تشرّبا روح الكتاب، واستوعبا الحالة التي نقلها، ثم صاغا قصّتهما الخاصة، أدبياً وسينمائياً، بإخلاص تام لحالة الدمار الجسدي والنفسي الذي عانته المُجنّدات، أثناء الحرب، وبعد انتهائها.
تدور الأحداث في خريف 1945، في لينينغراد (سانت بترسبورغ الآن) المُدمّرة كلياً، التي عانت حصاراً طويلاً لعام ونصف العام تقريباً. آثار الحصار بادية إلى حد بعيد في تفاصيل ومشاهد كثيرة، رغم سيادة التصوير الداخلي على غالبية المَشاهد.

إيا (فيكتوريا ميروشنيشينكو) تعاني نوبات تجمّد، تُدخلها في حالة شلل أو تَخَشُّب مؤقّت، لثوان أو دقائق، تفقد خلالها سيطرتها على جسدها، وتنفصل تماماً عمّا حولها. تنتابها تلك النوبات في أوقات مُفاجئة، ومن دون سبب معيّن. تصحبها أصوات أنفاس مخنوقة، تُشبه حشرجة الموت، أو نوبة الربو. هذه الحالة من اضطرابات ما بعد الصدمات في الحروب تُسمّى "متلازمة ما بعد الارتجاج". تتميّز إيا بقامة فارعة جداً، ولهذا سُمّيت "بينبول". بشرتها بيضاء شاحبة، وشعرها فاتح. رموشها بيضاء أيضاً، فوق عينين سوداوين كبيرتين. خلف أذنها اليمنى، جرح طويل لا يُذكر سببه.

يكشف السياق أنها التحقت بالجبهة، وعادت بسبب مرضها، وعملت ممرضة في مستشفى، وهذا يليق بطبيعتها الودودة والمُحبّة والهادئة. توفِّر الرعاية اللازمة لتربية الصغير باشكا (تيموفي غلازكوف)، رغم الظروف القاسية، وأبرزها نقص الطعام. ذات يوم، أثناء مرحها مع باشكا، تُداهمها الحالة، فتقع عليه بنصفها العلوي، ما يؤدّي إلى اختناقه وموته ببطء، في أحد أهم وأقسى المَشاهد، غير المسبوقة ربما في السينما المعاصرة، كفكرة وبراعة تنفيذ.

بعد الحادثة مباشرة، تظهر ماشا (فاسيليسا بيرليغينا)، صديقة إيا ورفيقتها في الحرب والسكن، عائدة من الجبهة، وتسأل بلهفة عن باشكا، الذي يظهر أنّه ابنها لا ابن إيا، وأنّها تركته معها خوفاً عليه. بعد استيعابها الصدمة، تتعقّد الأمور. ماشا عكس إيا، فهي قصيرة القامة. تناقض بدني متعمّد بذكاء من المخرج. ملامحها عادية، تكاد تكون غير روسية. تبدو سليمة جسدياً تماماً. العينان جامدتان ومنفصلتان عن الواقع، تدلّان على حيرة وذهول وعدم تصديق، أكثر من التعبير عن اليأس أو آثار الصدمة أو الانفصال عن الواقع. تحاول ماشا الانتقام مما حدث، بإقامتها علاقات عابرة كي تحمل بطفل آخر، يُعوِّضُها عن المفقود. تزداد الأمور مأسوية، عندما تعلم صدفةً أنّ أعضاءها التناسلية أزيلت بعد عملية جراحية لإخراج شظية من معدتها. تنقلب ماشا الجريحة على صديقتها، وتفعل كلّ ما بوسعها لابتزازها عاطفياً، وإجبارها على أن تحمل بطفلٍ من أي رجل، ما يدفع إيا إلى إقامة علاقة قسرية مع مدير المستشفى. الفيلم يُظهِر برهافة وصدق العلاقة المركّبة والمتناقضة بين الصديقتين. التباين واضح بينهما، فماشا قيادية وحازمة وجامدة، بينما إيا مُنصاعة ورقيقة ومُفعمة بالحبّ.

رغم الرضا الظاهري في حياتها الفارغة، والتعايش مع الواقع، والانشغال باحتياجات المرضى وآلامهم، تشعر إيا بالجرم الفظيع الذي ارتكبته من دون قصد. تحاول بشتى الطرق التكفير عنه، وإرضاء صديقتها، وتعويض نفسها أيضاً عن الطفل الميت. يتبدّى على ماشا العنف في محاولتها انتزاع حقوقها، وفي مشاعرها وحياتها المسلوبة منها. تحاول كثيراً التنفيس عن حزنها المكبوت، وأنانيتها الشرسة. تلاحق الحب والجنس والأمومة بلا هوادة، رغبة في شفاء جروحها واستعادة روحها. ورغم علمها بأنّ إيا لم تحمل بعد، وأنّ حملها صعب، تحاول إقناع نفسها بعيش مستقبلٍ أو تخيّله، ليس مستبعداً فقط، بل يصعب تخيّله.

إلى السيناريو الرائع، وتعقّد الأحداث وتشابكها، والصدق البالغ في رسم الشخصيات، هناك الدور البديع والمهم لمديرة التصوير كسينيا سيريدا، والإضاءة، خاصة الصفراء الشاحبة، المُستخدمة درامياً بشكل جيد للغاية، لخدمة لحظات معينة. مثلاً، في حجرة إيا وماشا عندما تحتد بينهما الانفعالات. دور الإضاءة يصعب إغفاله، ولا سيما أنّ غالبية المَشاهد تدور في ديكورات داخلية (المستشفى وحجرة إيا مثلاً). الأكثر إثارة للانتباه كامنٌ في توظيف الألوان في كلّ مشهد بلا استثناء، خاصة البني والأخضر، وأحياناً الأحمر، في الأزياء والديكورات والإكسسوارت، وغيرها. في هذا تميّز أو ضعف، لكنه بالتأكيد لن يُفسد متعة المُشاهدة، ولن يشتّت الانتباه أبداً.

المساهمون