الدبلوماسية الفرنسية... بين طموح ماكرون الجارف والواقع الدولي المعقّد

الدبلوماسية الفرنسية... بين طموح ماكرون الجارف والواقع الدولي المعقّد

06 مارس 2018
ماكرون في السنغال، فبراير 2018 (لودوفيك مارين/فرانس برس)
+ الخط -

تنشط الدبلوماسية الفرنسية بشكل كثيف في ظل الولاية الرئاسية، لإيمانويل ماكرون، مستغلة رغبة متصاعدة من القيادة الأميركية الجديدة في الانعزال أكثر فأكثر، وفي تغليب المصالح الاقتصادية على ما سواها، بشكل غير مسبوق.

كما تأتي الدينامية الفرنسية في ظل انحسار التأثير البريطاني، بسبب بريكست، وغياب مؤقت للدبلوماسية الألمانية بسبب الأزمة السياسية التي استمرت بضعة أشهر، قبل انفراجها، أول من أمس الأحد، بعد تصويت أغلبية في الحزب الاشتراكي الألماني على تجديد التحالف مع حزب المستشارة، أنجيلا ميركل. وتنشط هذه الدبلوماسية الفرنسية، سواء من خلال الزيارات الخارجية لرئيس الجمهورية أو استقباله لضيوف أجانب أو زيارات وزرائه، خصوصاً وزيري الدفاع والخارجية، وأحياناً رئيس حكومته، إلى مختلف دول العالم. ويغلب على زيارات ماكرون الشق الأمني، في المقام الأول، حين يتعلق الأمر بزيارته دولا أفريقية، بما فيها زيارة بلدان المغرب العربي، في حين أن الجانب الاقتصادي يحضر بقوة، في الزيارات التي تقوده إلى قوى اقتصادية، كما هو الشأن في زيارته المقررة إلى الهند ما بين 9 و12 مارس/آذار الحالي.

وبعد جولة ماكرون الأفريقية، التي قادته إلى بوركينا فاسو وساحل العاج والنيجر ومالي، عاد إلى السنغال، الحليف الأفريقي القوي والتاريخي لفرنسا. وقد جاءت الزيارات إلى مالي والنيجر وبوركينا فاسو، في إطار تعزيز الحضور الفرنسي العسكري في دول الساحل والصحراء لمواجهة مختلف الحركات الجهادية، وتعزيز "مجموعة الساحل 5"، التي تبذل جهوداً كبيرة، لكنها لا تزال ناقصة، لإنشاء قوات تدخل أفريقية مرنة وقادرة على صد هجمات الإرهابيين وتمهيد الطريق لخروج الفرنسيين من مستنقع الساحل، ومن "أفغانستانها"، بتعبير إحدى افتتاحيات صحيفة "لوموند". ورغم إعلان وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورنس بارلي، أخيراً، عن تصفية 450 "جهادياً" في منطقة الساحل منذ صيف 2014، فإن الهجمات الإرهابية مستمرة، وبعضها لا يخلو من جرأة، ضد المصالح الفرنسية وأهداف عسكرية في هذه الدول، وآخرها، كان في عاصمة بوركينا فاسو، واغادوغو.

وتأتي زيارة ماكرون إلى السنغال، لتؤكد على العلاقات التاريخية بين البلدين، على الرغم من أن السنغال ليست عضواً في "مجموعة الساحل 5"، التي تضم مالي والنيجر وموريتانيا وبوركينا فاسو وتشاد. ولم يكن التنسيق الأمني غائباً في الزيارة، خصوصاً أن البلد يحتضن قاعدة عسكرية فرنسية مهمة. لكنّ القضية الاقتصادية ليست غائبة هي الأخرى، في هذه الزيارات، خصوصاً أن الشركات الفرنسية في السنغال وغيرها من الدول الأفريقية تتعرض لمنافسة متصاعدة وشرسة من العملاق الصيني. وتستمر الدبلوماسية الفرنسية من خلال وزراء آخرين، بمن فيهم رئيس الحكومة الفرنسية، إدوار فيليب، إلى بلدان عربية وأفريقية، وأيضاً زيارات وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، وآخرها إلى إيران، التي مهّد لها اتصال هاتفي بين الرئيسين الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والإيراني حسن روحاني.

تستطيع فرنسا أن تتباهى بانتصاراتها في دول الساحل والصحراء على عدوّ هلامي وعنيد، وتأتي بعض صُوَر القتلى لمقاتلين لتؤكد أن الحرب لا تزال متواصلة، رغم حضور فرنسي قوي، حصل على دعم أميركي وكندي وألماني وبريطاني قبل أشهر. ولكن، عدا ذلك، فإن فرنسا، إذا استثنينا دورها الكبير في إعادة رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، من "السجون" السعودية، اكتشفت أن أهميتها ليست كما تأمل أن تكون، وكما هي مواقفها المُصرَّح بها. فهي لم تحقق شيئاً يُذكر في القضايا الأخرى، سواء تعلق الأمر بالحرب في سورية، حيث يسود نوع من الضبابية في موقفها، خصوصاً ما يتعلق بالردّ على استخدامات قوات النظام السوري للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، أو الموقف الواجب اتخاذه من بشار الأسد بسبب المأساة التي تعرفها منطقة الغوطة الشرقية، إذ لا يرى المراقبون سوى مناشدة فرنسا لروسيا وإيران للضغط على الأسد لوقف اعتداءات قواته. كما أن الموقف الفرنسي يعاني من الضبابية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إذ ترفض الحكومة الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، في حين تستقبل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بكل مظاهر الفخامة والتقدير.

مستقبل غير واعد

وإذا كان الرئيس الفرنسي، الأوروبي الهوى، لم يُخْفِ ابتهاجه لعودة الاستقرار السياسي في ألمانيا، وعودة القاطرة الألمانية إلى سكّة الاتحاد الأوروبي، فإن المفاجآت الأميركية بالمرصاد، خصوصاً النزعة المتزايدة للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نحو نوع من الحمائية (فرض رسوم على الفولاذ والألومنيوم)، لن تكون في صالح الأوروبيين، وهو ما أكّد عليه ترامب، بالقول، إن التنافس مفتوح ولا أحد يمكنه أن يغلب الولايات المتحدة. وحتى في حال اتفاق أوروبي على جواب موحَّد، فإن الرد الأميركي جاهز، وهو فرض ضرائب على السيارات الأوروبية.

ما الذي ستفعله الدبلوماسية الفرنسية، التي تحرص دائماً على التذكير بالصداقة الفرنسية الأميركية وعلى دور الجيش الأميركي في تحريرها من النازية، إزاء الضغوط الأميركية على الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي من أجل تجهيز قواتها بالسلاح الأميركي، ليس فقط مقابل الروسي، كما هو الشأن برغبة تركيا بشراء أنظمة دفاع روسية، بل، وأيضاً، مقابل السلاح الفرنسي والألماني. وإلا فإنّ الخروج الأميركي من "الأطلسي" وارد. وما الذي تستطيع فرنسا أن تفعله، وهي تتفاوض مع إيران، غير التشديد على احترام الاتفاق النووي، وعلى ألا تهدد الصواريخ الإيرانية إسرائيل وألا تَصل إلى "حزب الله"؟ أما إذا رفض ترامب التوقيع على الاتفاق النووي، فلا يوجد ردّ فرنسي. باختصار، هذه قضايا لا يغلب فيها سوى الكبار، وفرنسا، رغم النووي والفيتو في مجلس الأمن الدولي، تكتشف أن تأثيرها، من دون الاتحاد الأوروبي، ومن دون الحليف الألماني، ليس كبيراً، كما يحلم الساسة الفرنسيون. وهذه الحقيقة صرّح بها، منذ عقود السياسي الفرنسي العجوز، جان ماري لوبان، الذي تباع مذكّراته، بشكل غير مسبوق.