إمبراطورية "سوكلين": ديكتاتورية احتكارية على الطريقة اللبنانية

إمبراطورية "سوكلين": ديكتاتورية احتكارية على الطريقة اللبنانية

03 اغسطس 2015
النفايات تُغرق العاصمة وجبل لبنان (حسين بيضون)
+ الخط -
انفجر ملف النفايات في وجه السلطة اللبنانية الحاكمة. تملأ أطنان النفايات شوارع العاصمة وجبل لبنان (أكبر المحافظات اللبنانية)، على وقع اجتماعات مفتوحة لمجلس الوزراء اللبناني واتصالات مكوكية بين المكوّنات السياسية لاحتواء هذه الأزمة. 

منذ أسبوعين والحال على وضعه، والأصابع كلها تشير إلى "سوكلين"، أي الشركة الخاصة الموكلة مهمة جمع ومعالجة النفايات في هاتين المحافظتين. انتهى عقد الشركة مع الدولة، ممثلة بـ"مجلس الإنماء والإعمار"، فأكلت النفايات شوارع العاصمة، في حين تسيطر المحاصصة على مهمّة إيجاد الحلول وإبرام المناقصات اللازمة لتلزيم نفايات لبنان وتوزيعها على الشركات الخاصة.

اقرأ أيضاً: نفايات بيروت تخلق نزاعات طائفية ومناطقية

لا تعرف أجيال اللبنانيين ما بعد الحرب، في بيروت وجبل لبنان، سوى "سوكلين" في قطاع النفايات. دخلت الشركة إلى هذا القطاع بعد اتفاق الطائف وخلال حكومة رئيس الوزراء الراحل عمر كرامي، فجاءت أولى مهماتها عام 1991، ولا تزال تعمل في هذا المجال حتى اليوم. باتت الشركة تجسّد شكلاً جديداً من الديكتاتوريات؛ تعمّر وتطوّر نفسها، بينما الدولة اللبنانية ماضية منذ أكثر من عقدين في تأجير واجباتها للمؤسسات الخاصة ولو جاءت الكلفة باهظة. انضمّت سوكلين إلى "مشروع إعادة إعمار بيروت" بعد الحرب، وارتبط اسم رئيس مجلس إدارة الشركة، ميسرة سكّر، باسم قائد هذا المشروع رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري الذي اغتيل عام 2005. كان الرجلان شريكين في إدراة الأعمال ومشاريع البناء في السعودية، قبل الحرب. ومن هنا تبدأ حكاية إمبراطورية "سوكلين" في لبنان، كجزء من مشروع سياسي بطعم اقتصادي ونمط توزيع حصص يسود الدولة اللبنانية منذ انتهاء الحرب.

منذ عام 1994 وحتى اليوم، وسّع العقد دور "سوكلين" ومهامها في قطاع النفايات، وتحول سكّر من أحد مقاولي حرق النفايات وطمرها إلى محتكر لعملية جمعها ومعالجتها في بيروت. مدّدت الحكومة اللبنانية عقد الشركة مرات عدة من دون إخضاع مشروع التلزيم لمبدأ المناقصات وعدم السماح لأي شركة أخرى بالدخول إلى هذا المجال والمنافسة فيه. أصبح الأمر "وكأن سوكلين هي قدر المواطنين"، بحسب ما يقول أحد المقاولين والمتعهدين المتعاونين مع الدولة، المهندس رياض الأسعد، لـ"العربي الجديد".

يشير متابعون لتلزيم "سوكلين" ملف النفايات إلى أنّ "نسبة أرباح الشركة تراوح بين 40 و45 في المائة". ويربطون هذا الأمر بالكلفة المرتفعة التي يسددها المواطنون لهذه الشركة. إذ تعدّ كلفة معالجة سوكلين من الأغلى عالمياً، 150 دولاراً أميركياً للطن الواحد، في حين تشير الدراسات حول هذا القطاع إلى أنّ النسبة العالمية المتوسطة هي 70 دولاراً للطنّ الواحد. يدفع هذا الواقع وهذه الأرقام سكّر إلى التأكيد أنّ سوكلين ليست منظمة خيرية "فلا يعقل أن يعمل إنسان من دون ربح ونحن نعمل ليلاً نهاراً ونتقاضى أجرنا ضمن المعايير"، بحسب ما قال في مقابلة تلفزيونية وإطلالة إعلامية نادرة له على المحطات اللبنانية قبل أيام.

اقرأ أيضاً: "كلام" ميسرة سكر... وصمت مارسيل غانم

سكّر محق في هذا الأمر؛ فالعقود التي أبرمتها الشركة مع الدولة تنصّ على هذه الكلفة وهذا الربح، وبالتالي يتحوّل السؤال عن الكلفة والفساد وهدر المال العام، إلى المسؤولين في الدولة اللبنانية الذين أصرّوا في العقدين الأخيرين على تمديد هذا العقد. الأمر الذي يفتح باب التواطؤ والشراكة والاستفادة من أموال هذا القطاع بين الشركة الخاصة ومشغّليها الرسميين. وتُثار أحاديث داخل "سوكلين" عن "صندوق أسود" يتقاسم من خلاله السياسيون في السلطة أموال الصفقات ليموّلوا مشاريعهم السياسية أو الشخصية، وهو "صندوق" متعارف عليه في لبنان في مؤسسات كبيرة تتشارك الدولة اللبنانية ملكيتها أو أسهمها مثل "كازينو لبنان".

ويشير أحد المطلّعين على الصفقات الجانبية للشركة إلى أنّ "سوكلين تقوم منذ تجديد عقدها عام 2010 بكنس وجمع النفايات في مدينة إهدن وبعض قرى زغرتا (شمالي لبنان، ويتزّعمها رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية) من دون وجود أي عقد". وبالتالي يندرج هذا الأمر من ضمن أعمال "الصندوق الأسود" واستفادة بعض الزعماء المحليين من قرارهم دعم تجديد عمل سوكلين على الساحة اللبنانية. الجدير بالذكر في هذا الإطار، إشارة متابعي هذا الملف لـ"العربي الجديد" إلى أنه "تم تلزيم سوكلين في عام 1994 بمبلغ أربعة ملايين دولار أميركية فقط، ليرتفع الرقم إلى 102 مليون دولار بعد عامين".


ويضيف هؤلاء أنّ "سوكلين تحصد مبلغ 70 مليون دولار أميركي كأرباح سنوية صافية"، وبالتالي لا بد من القول إنّ هذا المبلغ خاضع إذاً لـ"الصندوق الأسود"، والذي يحكى عنه أيضاً في قطاعات أخرى منها الاتصالات وكازينو لبنان. 

وإذا كان لحرص المسؤولين اللبنانيين على احتكار سوكلين لـ"سوق النفايات" في بيروت وجبل لبنان (التي تشكل نفاياتها ما يقارب 65 في المائة من نفايات لبنان، وبالتالي أرباحها تفوق أرباح المناطق الأخرى)، دوافع مالية وسياسية، فإنّ هذا الاحتكار ساهم في تدمير السلطات المحلية في المناطق الخاضعة لسوكلين.
أصبحت البلديات الخاضعة لعمل "سوكلين" (344 بلدية في جبل لبنان بالإضافة إلى بلدية بيروت) مفرّغة من قدرتها على معالجة هذا الملف، إضافة إلى أنّ كلفة خدمات الشركة تسدّد من الصندوق البلدي. وبالتالي، بدل أن تصبّ هذه الأموال في تطوير البلديات واتحاداتها وقدرتها على المعالجة، تذهب مباشرة إلى "سوكلين"، ما يساهم في إفراغ البلديات من دورها وسلطتها وحرمانها من الأموال المخصصة لها.

تواجه سوكلين اليوم اعتراض بعض المكوّنات السياسية على التمديد لإمبراطوريتها في بيروت وجبل لبنان. وكان مجلس الوزراء قد أعاد، في الخطة التي أقرها للنفايات مطلع العام الحالي، تشكيل المناطق الخدماتية، ففصل بيروت عن جبل لبنان وقسّم الأخير إلى منطقتين. مع تأكيد القرار الحكومي على "حصر التلزيم بمتعهّد واحد في منطقتين خدماتيتين على الأكثر"، أي أنه حتى لو استمرت "سوكلين" في عملها، سيكون قد اقتصّ منها جزءاً من نطاق عملها. 

لم تتقدم "سوكلين" إلى استدراج العروض الخاصة بمعالجة النفايات في بيروت. ويعيد سكّر الأمر إلى عدم قدرة الشركة على مجاراة شروط العقد وتحديداً مسؤولية الشركات عن إيجاد الأراضي اللازمة لمعالجة النفايات.

في حين يقول أحد المشاركين في هذه المناقصات لـ"العربي الجديد" إنّ "أحداً لم يقم بهذه الخطوة لاعتبارات سياسية، ولكون بيروت من حصة تيار (المستقبل)، وبالتالي قامت الأطراف الأخرى بتقديم طلبات التلزيم في المناطق التي تسيطر عليها وبقيت بيروت خارج اللعبة". ويضع المصدر نفسه عدم مشاركة "سوكلين" في استدراج العروض في إطار "محاولة الضغط على مجلس الوزراء مجتمعاً لمحاولة إعادة النظر في القرار الصادر عنه وتغيير الشروط المفروضة على الشركات".

وإلى حين تحقيق ذلك، سيبقى أهالي بيروت وجبل لبنان غارقين في جبال النفايات المكدّسة في شوارعهم، والتي تحاول السلطات نقلها إلى بعض الكسارات والمرامل الموجودة على أعالي جبال سلسلة لبنان الغربية (التي تفصل البقاع عن الساحل اللبناني). مع العلم أنّ المصدر نفسه يشير إلى إمكانية أن تتقدم ثلاث شركات إلى المناقصة الخاصة بسوليدير، إحداها محسوبة بشكل أو بآخر على الحريري الابن. وفي حال تمّ ذلك تكون إمبراطورية سوكلين قد سقطت أو باتت آيلة إلى السقوط. 

توضح نتيجة أزمة النفايات أنّ واقعاً سياسياً قد تغيّر في لبنان، وأنّ الحصص التي كانت تتقاسمها الأحزاب والزعامات باتت خاضعة للتعديل والنقاش. لكن الأهم أنّ الأزمة قد "فرزت ست (سوكلينات) بدل واحدة"، بحسب ما يشير أحد المتابعين الاقتصاديين لـ"العربي الجديد"، في إشارة إلى تقسيم مجلس الوزراء للبنان إلى ستّ مناطق خدماتية على مستوى النفايات. أي أنه، على الأرجح، بدلاً من أن تكون جميع الأطراف متعاونة في هدر وفساد ومحاصصة في شركة واحدة، أصبح لكل طرف منها مكاناً خاصاً يمارس الأعمال نفسها في قطاع النفايات. وبدلاً من أن يكون هناك صندوق أسود واحد، أصبحت ستة صناديق، وكل هذا مشرّع بمراسيم وقرارات حكومية.

المساهمون