الأسد وماراثون المقابلات الروسية: فعل ندامة بانتظار "تسريبة قذرة"

الأسد وماراثون المقابلات الروسية: فعل ندامة بانتظار "تسريبة قذرة"

04 ابريل 2016
من تظاهرة مؤيدة للثورة السورية في نيويورك (ماريو تاما/Getty)
+ الخط -
يبدو الظهور الإعلامي الماراثوني لرئيس النظام السوري، بشار الأسد، في غضون أسبوع واحد، فيلماً روسياً بالشكل والمضمون، بالسيناريو والإخراج. تنقّل الرجل بين وكالات أنباء وصحف وتلفزيونات كلها روسية، حكومية أو شبه حكومية، ليقدم ما يشبه فعل الندامة عما تفوّه به هو شخصياً، أو وزير خارجيته، وليد المعلم، الذي شطب ذات يوم، في مؤتمر صحافي دمشقي أراده مضحكاً فجاء مملاً، قارة أوروبا عن خارطة العالم، عندما أعلنت العواصم الرئيسية في القارة العجوز دعمها اللفظي للثورة السورية، قبل أن يعود معلّم المعلم، أي الأسد نفسه، ليعيد القارة إلى مكانها الطبيعي، ويعرض عليها، بلا ملل، جهود دمشق لـ"محاربة الإرهاب".

لم يكن من مبرر "منطقي" لخروج الأسد المتكرر في حوارات صحافية لم يفصل في ما بينها يوم أو اثنان، إلا إن ثبُت أن الأمر كان بنداً روسياً في خارطة الطريق التي ترسمها موسكو لحكام دمشق بالتفاصيل، لمنع الرجل ورموز نظامه من الخروج مجدداً عن السكة الموضوعة، على شاكلة ما فعله الأسد قبل فترة أمام نقابة المحامين، أو المعلم في مؤتمره الصحافي الشهير قبل ساعات من حلول موعد محادثات جنيف2 منتصف مارس/آذار الماضي. خروج تسبب ولا يزال لروسيا بمتاعب هي بغنى عنها في علاقتها الملتبسة بواشنطن، المتسمة بتفاهم ضمني ظاهره خلاف حاد لا يلبث أن يتخذ شكل التواطؤ العلني، تجسّده اللقاءات الثنائية التي تجمع بوتيرة صارت شبه أسبوعية، كلاً من وزيري الخارجية جون كيري وسيرغي لافروف، حيث يظهران كصديقين شخصيين يتبادلان الهدايا من أكياس بطاطا وزجاجات فودكا، ولا يترددان في تبادل المزاح أمام العدسات، وإن كان من النوع غير المعهود كثيراً في قاموس العلاقات الدبلوماسية "الجدية" و"الرصينة".


مَن يطالع مضامين حوارات الأسد لوسائل الإعلام الروسية الأسبوع الماضي، ويقارن المواقف الصادرة عنها مع ما سبق لرئيس النظام أن أعلنه طيلة الفترة الماضية، لا يجد إلا ما يؤكد النظرية التي تفيد بأنه كان مطلوباً منه روسياً، أن يقوم بنفسه، لا أحد المتحدثين باسمه، بمحو ما سبق أن ثبّته بلغته الركيكة حول جملة من العناوين: ــ استعداد النظام حيال مواصلة المشاركة الكاملة في اجتماعات جنيف من عدمه. ــ "فلسفة" النظام حيال الهدنة العسكرية وتصوّره لمستقبل العمليات العسكرية وارتباطها بـ"الحل السياسي". ــ نظرة النظام إلى الأطراف الناطقة باسم الثورة والفصل ما بين تنظيمي "داعش" و"جبهة النصرة" من جهة، وفصائل المعارضة السورية من جهة ثانية. ــ وجهة تعاطي دمشق مع بنود ما يمكن تسميته "سلّة العملية السياسية الانتقالية"، من الانتخابات الرئاسية المبكرة، مروراً بشكل الدستور الجديد، وقابلية النظام لمشاركة السلطة مع "المعارضة" أو "معارضين" وفق المعايير الروسية طبعاً، لا بحسب الانتماء إلى الثورة من عدمه، وصولاً إلى فهم النظام لهيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات بحسب روحية ومخرجات مؤتمر جنيف1 (2012)، وهو البند المركزي الذي أصبح مسخاً منذ اجتماع فيينا الشهير (أكتوبر/تشرين الأول 2015)، الذي كرس وجود التفاهم الروسي الأميركي حيال سورية، من خلال العبارة التي صارت "هيئة حكم شامل"، بدل "انتقالية". وشتّان بين المصطلحين طبعاً، على غرار الفارق الهائل بين عبارتي "الانسحاب من أرضٍ محتلة" و"الانسحاب من الأراضي المحتلة" بحسب الترجمات العديدة للقرار 242 الصادر بعد حرب العام 1967، والذي انتصرت ترجمته الإنجليزية كالعادة بصيغة "أراضٍ محتلة" بلا أل التعريف، فحصل ما حصل ولا يزال.
جاءت مواقف الأسد في ماراثون مقابلات الأسبوع الماضي بحجم الإخفاق اللفظي الذي ارتكبه هو والمعلم في المناسبات السابقة. فالأسد، الذي قالها بلسانه قبل نحو عام، إنه "لا ضرر من التخلي عن بعض المناطق للحفاظ على مناطق أخرى أكثر أهمية" (فقط لم يستخدم مصطلح سورية المفيدة)، كان كمن يقرأ الأفكار الروسية في حينها، قبل أن يخرج عن النص أمام نقابة المحامين في فبراير/شباط الماضي، ويرفع السقف على وقع "انتصارات" الحرب الروسية في سورية، وليجزم بأنه عازم على استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، بما يشكل خروجاً كاملاً عن الأجندة الروسية العاملة على صيغة تقاسم نفوذ عملية، في جغرافيا واحدة أو أكثر من دولة سورية. هكذا، كان لا بد من أن يجد الأسد الأجوبة المناسبة لعدم تكرار اللهجة العنترية التي لا تترك مجالاً للتفاوض، وهو غاية التدخل الروسي في سورية. الأسد، الذي سمح على الأقل للمعلم أن يهدد العالم بأسره عشية جنيف2 الشهر الماضي، على اعتبار أن وفد نظامه ليس لديه من الوقت أكثر من 24 ساعة ليقضيها في جنيف، على حد تعبيره، التقط سريعاً رسائل الإعلان عن سحب الجزء الأكبر من القوات الروسية من سورية، وأوعز لوفد بشار الجعفري بالبقاء حتى اللحظة الأخيرة في المحادثات السويسرية.


أيضاً الأسد، الذي تحمس وزير خارجيته، وحسم بأن "الرئاسة السورية خط أحمر"، رداً على بند هيئة الحكم الانتقالية أو هيئة الحكم الشامل كاملة الصلاحيات التنفيذية، صار، في مقابلاته الروسية الأخيرة، مستعداً لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. هو الأسد نفسه الذي كاد يعلن الحرب على تركيا ويلوّح باحتلال أنقرة وإسطنبول وإزمير ربما، صار شرطه الوحيد لقبول مشاركة تركيا في البحث عن حلّ سوري، هو "عدم تدخل" الرئيس رجب طيب أردوغان مباشرة في هذه الجهود.

أكثر من ذلك، فإنّ المعارضين، أو كل من خرج عن نظام البعث، الإرهابيين تعريفاً بالنسبة للأسد وآله قبل أشهر فقط، صار رأس النظام مستعداً للمشاركة معهم في حكومة "تعددية" واحدة يرغب الأسد أن يختصر بها معالم المرحلة الانتقالية. والدستور الحالي الذي استخفّ الأسد من خلاله بالعالم بأسره عندما أقره في استفتاء 25 فبراير/شباط 2012، صار بالنسبة له قاب قوسين أو أدنى من أن يُرمى في سلة المهملات، بما أنه يجب وضع دستور جديد كما قال في سلسلة حواراته الروسية الأخيرة.


بذل الأسد، من دون شك، جهداً كبيراً ليتطابق خطابه مع الأجندة الروسية المعلنة والقائمة على المجاهرة بربع ما يتم الاتفاق حوله، وترك الأمور تترجم التسويات السرية والتفاهمات الضمنية لاحقاً، بأقل قدر ممكن من الكلام والتصريحات. وما الدليل ــ العيّنة عن استراتيجية موسكو السورية هذه، إلا رد الفعل العنيف والغاضب حقاً للافروف قبل يومين، حيال ما قيل إنه اتفاق أميركي روسي على رحيل الأسد إلى "دولة ثالثة". غضب الرجل صاحب اللسان السليط، فاستخدم مصطلحات غير دبلوماسية، من نوع "تسريبات قذرة"، من دون أن ينفي وجود اتفاق مماثل حقاً. فبالنسبة للعقل الروسي مثلما يظهر في أوكرانيا وسورية، يجب ألا يعلن عن أي قرار أو أي اتفاق إلا بعد تنفيذه، حين يصبح الإعلان نافلاً وتحصيل حاصل. يتم احتلال شبه جزيرة القرم، فيعلن لاحقاً ضمها إلى روسيا. يتم اقتطاع مناطق شرق أوكرانيا الانفصالي فتصبح تلقائياً، و"دي فاكتو"، جزءاً من الأراضي الروسية، من دون أن يتمكن أحد من مساءلة روسيا بالقانون الدولي، بما أن لا إعلان روسياً ولا تبنّيَ لما صار واقعاً مكرساً وستاتيكو جغرافياً وسياسياً بأمر روسي غير معلن.
من خلال تتبع المسار الانحداري الذي تسير عليه جولات جنيف منذ احتماع فيينا العتيد، وصولاً إلى أحدث فصول النفاق الأميركي حيال بشار الأسد، واعتبار واشنطن أنه عليه الرحيل "في نهاية المطاف" أو "في مرحلة ما" (مع أنه كان يجب أن يرحل عند بداية المرحلة الانتقالية بحسب أدبيات وروحية وفلسفة جنيف 1)، يمكن توقّع أن تطول اجتماعات ومداولات ومساومات أجندة جولة جنيف3 المقرر أن تبدأ في 11 أبريل الحالي، حيال بندين رئيسيين: هل نعطي شخص بشار الأسد (بات السؤال غير مطروح تقريباً بالنسبة لأركان نظامه) حق المشاركة في انتخابات رئاسية مبكرة بات هو من المرحبين بها؟ ما هو الشكل الأمثل لدستور سوري جديد لا يمكن لأي طرف رفضه، من دون أن ينال موافقته بالضرورة؟ وفي غضون ذلك، سيكون العالم مضطراً لأن ينتظر تسريبة "قذرة" جديدة خارجة من غرف لقاءات كيري ولافروف.

المساهمون