حجرٌ من انهيارٍ جبليّ

حجرٌ من انهيارٍ جبليّ

09 نوفمبر 2015
لوحة للفنان الصيني شن لين كسين (Getty)
+ الخط -
لم يكن خافياً على أحدٍ أننا كنا كُثراً في البيت. لا بدّ أن أحدنا كان زائداً. كنتُ الخامسة بين ستة أشقاء، وقد جئتُ إلى الدنيا لأن الله شاء ذلك، كما كانت أمي تقول، وينبغي قبول ما يرسله الله لنا. كانت ماريّا، الأكبر بيننا، تتولّى شؤون البيت وتدبيره أكثر من أمنا؛ كان جوزيب الابنَ البكر والوريث، أمّا جوان فكان يتعلّم في مدرسة الكنيسة. وكنا، نحن الثلاثة الصغار الباقين، عبئاً لا نعمةً، كما سمعتهم مراراً يقولون. لم تكن سنوات خيرٍ، ولمّا كان ثمة أفواهٌ جائعة كثيرة ورزقٌ قليل، تحتّم عليهم أن يقنعوا بالنزر الذي يلقونه. وهكذا، تقرّر إرسالي إلى خالتي كي أساعدها، لأنني كنت مطيعة وعاقلة جداً. خالتي التي فقدت الأمل في إنجاب أولاد، وكان عندها من الأشغال ما لا ينتهي. كانت متزوجة من رجلٍ وارثٍ يكبرها بسنين كثيرة، يملك أراضٍ، وستّ بقراتٍ على الأقل، ودواجنَ وأرانبَ، إضافةً إلى بستان خضروات. كان عيشهما ميسوراً، لكنهما احتاجا إلى رفقةٍ وإلى يد معونةٍ في البيت، فقد بدأا يشعران بأنهما يشيخان. وهكذا، كنتُ في الثالثة عشرة عندما رحلتُ حاملةً صرّتي على كتفي، يرافقني أبي إلى يميني وماريّا إلى يساري؛ رحلتُ تاركةً العائلة، والبيت، والقرية، والجبل. ومع أنّ بضعة كيلومترات لا غير كانت تفصل إيرميتا عن باياريس، فتلك المسافة كانت تعني يوماً بأكمله من السير على الأقدام، وتعني خسارتي البيتَ الذي كنت أراني أبتعد مُولّيةً له ظهري. كان ذلك الرحيل يؤلمني في أعماقي أكثر من أيّ شيءٍ آخر في تلك اللحظات، عندما كنتُ أهبط الطريق مصطحبةً معي العالم الوحيد الذي عرفته؛ كان كلُّ شيءٍ يتوارى خلفي.
طوال تلك الساعات الصامتة التي مشينا فيها باتجاه سوق مونْسين حيث اغتنم أبي وماريا الفرصة لشراء حاجياتٍ للبيت، واستودعاني بين يدي خالتي وزوجها، لم أفكّر سوى في الأشياء الجميلة التي عشتها في القرية التي ولدتُ فيها ولم أكن أغادرها سوى لأرعى القطعان في الجبال، أو لأتسلّل إلى القرية المتاخمة ذات البيوت الأربعة كي أحضر عيدها السنويّ. كان أناسٌ كثرٌ يحضرون ولا طعامَ يكفي.

أتذكر الشتاءات الثلاثة التي ارتدتُ فيها المدرسة. كنتُ إحدى البنات القليلات اللواتي استطعن الذهاب إلى المدرسة، فقد كانت لي أختان أكبر مني تتولّيان القيام بالأشغال في البيت. محظوظةٌ هي صُغرى شقيقاتها! كانت المعلمة تجعلنا نكتب بخطّ مدوّر تنتهي معه الحروف بزوائد نحو الأعلى، ولطالما بدا لي حرف الراء المرسوم بلفّة حلزونية في بدايته شبيهاً بلولب. وفي المدرسة لم نعانِ من البرد قطُّ، لأن دونيا باكيتا ما كانت تستسلم لبُخل العائلات، فتطالب كلّ أسبوع بتأمين كومةٍ كبيرة من الحطب من أجل تدفئة الصف، وكانت تقول إن الحروف تحتاج إلى قليلٍ من الدفء كي تدخل إلى رؤوسنا، وإذا كانوا يريدون أن نتعلّم فينبغي "إبداء القليل من حُسن النوايا"*. فأنا، على كل حال، لم أتعلّم الكثير، وكان كلّ ما تعلّمته باللغة الإسبانية، ونسيتُ معظمه نهائياً في ما بعد.

اقرأ أيضًا : خطيئة التقصير

لم تفارقني الدهشة طوال الأيام الأولى وأنا أرى تلك السيدة التي لا أظنّ أن أحداً يعرف من أين جاءت، تخاطبنا من دون أن نفهم منها شيئاً. لكن أخيراً، أصبحنا نفهم ما تقول، وهي أيضاً صارت تفهمنا عندما نحدّثها، ومع ذلك لا أعرف لماذا كانت تتظاهر بالعكس، كما لو أن فهمها لنا يُخجلها أو يحرجها. لا أزال أتذكّر تلك الشتاءات في المدرسة وكأنني أعيشها الآن في هذه اللحظة. كنا أنا وماغدَلينا في المقعد نفسه دائماً، وكلّما حان دورنا في القراءة، كانت الضحكة تفلتُ من فمي فتتوقّف ماغدَلينا عن القراءة. حينئذٍ، كانت دونيا باكيتا تدفع نظارتها لِصق عينيها، وترمقني بنظرةٍ ناريّة وكأنها ضباطٌ رقيب، وعندها ينتابني ذلك الوجع في المعدة إثرَ حبس الضحك، فتستأنف ماغدالينا القراءة. وبعدها بهنيهةٍ، كنتُ أحسّ ببضع قطراتٍ من البول تتسرّب إلى سروالي.

كنت أحبُّ الذهاب إلى المدرسة. كان شيئاً مختلفاً عما فعلناه دائماً، يُشعرني أن للطفولة بعض المزايا. ففي البيت يُشعِرونك بأنك مصدرٌ للإزعاج والمتاعب. فإذا لعبتَ بين أكوام القشّ فإنك مَن يبعثره ويفسده؛ وإذا دنوت من النار ماسكاً الملقط لتعبثَ بالجمر تحت القُدور، علتْ صرخاتهم حتى السماء كأنك تسبّبتَ بمصيبةٍ لا يعلمها إلا الله؛ وإذا التقطتَ حجراً أو قطعة خشب لتلعبَ بها، فإنك حتماً ذاهبٌ لتتشاجر مع واحدٍ من أترابك. كُنتَ في مأمنٍ فقط إذا عاونتَ في ترتيب البيت، أو في تقشير البطاطا، أو في حمل الحطب. غير أن ذلك كان يعني نُضوجك، بينما في نفس الوقت، لا يُسمح لك بالاقتراب من إبريق النبيذ ولا من لحم الخنزير المقدَّد، لأنك لا تزال صغيراً.

*وردت هذه الجملة بالإسبانية.
الترجمة عن الكتلانية كاميران حاج محمود

دلالات

المساهمون