خطيئة التقصير

خطيئة التقصير

08 سبتمبر 2015
تشكيل أنثوي لرامبوليني
+ الخط -
تُوفيت أمّه عندما كان في الثالثة عشرة، وكانت آخر ما بقي له في الحياة. بعدها أصبح يتيماً، وكانت ثلاث سنوات على الأقلّ قد مضت وهو لا يتردّد إلى المدرسة، صار عليه أن يجري من مكانٍ إلى آخر ليُحصِّل قُوت يومه. قريبُهُ الوحيد كان أحد أولاد عمومة أبيه، يُدعى إيميتيريو رِوِّث إيريديا. كان إيميتيريو عمدة البلدة. يمتلك بيتاً ذا طابقين يطلّ على ساحة القرية، مُستديرَ البناء، يصطبغ بلونٍ ضاربٍ إلى الحمرة تحت شمس آب. كان لديه مائتا رأسٍ من الماشية ترعى في منحدرات ساغرادو، وله بنت فتيّة يناهز عمرها العشرين، سمراءُ، متينة العُود، ضحوكٌ، وبلهاءُ بعض الشيء. زوجته نحيلةٌ، صُلبة كحَورٍ أسودَ، كانت سليطة اللسان وتُجيد إعطاء الأوامر. لم يكن إيميتيريو روِّث يتفاهم بشكل حسن مع نسيبه البعيد ذاك، أما أرملته فقد ساعدها من باب مراعاة الواجب، فكان يجد لها أعمالاً يوميّة إضافيّة. بعد ذلك، وبالرغم من أنه آوى الصبيّ مذ تيتّم من دون أن يرث شيئاً أو يكون عنده صنعة، فإنه لم يكن يُوليه الاهتمام كما يجب. وهكذا فعل بقية أفراد العائلة.
في الليلة الأولى التي أمضاها لوپه في بيت إيميتيريو، نام تحت مخزن الغلال. قُدّم له العشاء وكأسُ نبيذٍ. وفي اليوم التالي، بينما كان إيميتيريو يحشر قميصه تحت البنطلون، وبالكاد كانت الشمس قد طلعت في صياح الدِّيكة، ناداه من المنور بين السلالم مُفزِعاً الدجاجات الراقدات بين الثقوب:
- لوبه!.
نزل لوبه حافياً، وجفون عينيه لا تزال ملتصقةً بسبب الرّمَص. كان ضئيل الحجم بالنسبة لصبيّ في الثالثة عشرة، وكان رأسه كبيراً وحليقاً.
- ستذهب لترعى في ساغرادو.
وجدَ لوبه جزمته وانتعلها. كانت فرانثيسكا، الابنة، في المطبخ قد سخّنت البطاطا المطهوّة بالفلفل الأحمر. ابتلعها لوبه بملعقة الألمنيوم في عجلةٍ، مُنقِّطاً مع كلّ لقمة.
- أنت تعرف هذه المهنة من قبل. أظنّك مضيت في ربيعٍ سابق إلى تلال سانتا آوريا لترعى عنزات آوريليو برنال.
- أجل سيدي.
- لن تكون بمفردك، فهناك يمكث روكي إلْ ميديانو. سترعيان سويّة.
- أجل، سيدي.
وضعت له فرانثيسكا في صُرّته رغيف خبزٍ، ومَزادةً من الألمنيوم لحفظ الماء، وشحم ماعز، ولحم بقر مُقدّد.
- فلتنطلقْ. قال له إيميتيريو روِّث إيريديا.
نظر لوبه إليه. كانت عينا لوبه سوداوين، مستديرتين، وبرّاقتين.
- إلامَ تنظر؟ هيّا تحرّكْ!.
خرج لوبه، وصُرّته على كتفه. قبل ذلك، التقط عُقّافته الغليظة، المُلتمعة من كثرة الاستعمال؛ كان يحتفظ بها مُسنَدةً إلى الحائط كما لو أنها كلب.
عندما كان يبتعد مُتسلّقاً رابية ساغرادو، رآه دونْ لورينثو، معلّم المدرسة. عند المساء، في الحانة، لفّ دونْ لورينثو سيجارة بصُحبة إيميتيريو الذي قصدَ الحانة ليحتسي كأساً من شراب اليانسون الكحوليّ.

اقرأ أيضاً: لا أذهب إلى السينما أبداً

- رأيتُ لوبه- قال المعلّم - كان صاعداً باتجاه ساغرادو. آسَفُ لحال هذا الصبيّ.
- «نعم.- أجاب إيميتيريو ماسحاً شفتيه بظاهر يده - سيعمل في الرعي. فأنت تعرف: عليه أن يكسب خبزه. الحياة قاسية. التعِسُ إل بيريكوتِه، لم يترك له ولا حتّى جداراً يستند إليه ويموت بقربه.
- ما هو مؤسفٌ، - قال دونْ لورينثو وهو يحكّ أذنه بإظفره الطويل المُصفرّ- أنّ الصبيّ فيه نفعٌ. لو امتلك الوسائل لكان من الممكن أن يُعتمد عليه في نجاحه. إنه ذكيّ. ذكيّ جداً. في المدرسة.
قاطعه إيميتيريو بيدٍ رفعها أمام عينيه:
- حسناً، حسناً! لا أقول إنّ ذلك غيرُ صحيح. لكن يجب أن يكسب رزقه. الحياة تزداد سوءاً يوماً بعد آخر.
طلب كأساً أخرى من اليانسون. المعلّم أوماً برأسه موافقاً إيّاه.
وصل لوبه إلى ساغرادو، وراح ينادي على روكي إلْ ميديانو، إلى أن وجده. كان روكي يعاني قليلاً من تخلّف عقليّ، وقد مضى له حوالي خمسة عشر عاماً يرعى لصالح إيميتيريو. يكاد عمره يقارب الخمسين، وكان تقريباً لا يتكلّم أبداً. ناما في الكوخ الطينيّ الصغير نفسه، تحت أشجار السنديان، حيث استُفيد في بنائه من تشابك جذورها. في الكوخ كانا يَسَعان مستلقيين فقط، وكان عليهما الدخول على أربعٍ، نصف زاحفين. لكنّ الجوّ داخله كان لطيفاً في الصيف، ودافئاً بقدرٍ كافٍ في الشتاء.
انقضى الصيف، وبعده الخريف والشتاء. لم يكن الرعاةُ ينزلون إلى القرية عادةً إلا في الأعياد. كل خمسة عشر يوماً كان راعٍ صبيٌّ يصعد إليهما بالمؤونة: خبز، لحم مقدّد، شحم، ثوم، وأحياناً قِربة نبيذ. كانت قِمم ساغرادو بديعةً، ذات أزرقٍ عميق، مَهيب، وكتيم. وكانت الشمس عالية ومستديرة كحدقةٍ قاطعة، تتربّع هناك مثل ملكة. في سديم الفجر، حيث لا يُسمع بعدُ طنين الذباب ولا أيّ طقطقةٍ حتّى، اعتاد لوبه أن يصحو، ليرى السقف الطينيّ قابعاً فوق عينيه. كان يبقى ساكناً لبرهة، يشعر بجسد روكي إل ميديانو يُلامس جنبه، وكأنّه كومةٌ تتنّفس. بعد ذلك، مُجرجِراً نفسه، كان يخرج إلى الزريبة المُسيّجة. في السماء، كانت الصرخاتُ متعاليةً تضيع بلا جدوى، متقاطعةً، كنجماتٍ هاربة. الله وحده يعرف في أيّ جهة كانت تسّاقط. كالحجارة. كالسنوات. عامٌ، عامان، خمسة.
ذات مرّة، بعد انقضاء خمسة أعوام، أرسل إيميتيريو في طلب لوبه عن طريق الراعي الغُلام. اصطحبه إلى الطبيب ليُجري له فحوصاتٍ، ورأى أنه كان معافىً وقويّاً، قد نما مثل شجرة.
- أيُّ سنديانة! قال الطبيب، الذي وفد حديثاً إلى القرية. احمرّ وجه لوبه، ولم يعرف بماذا يُجيب.
كانت فرانثيسكا قد تزوّجت وأنجبت ثلاثة أطفال، كانوا يلعبون أمام مدخل الساحة. اقترب من لوبه كلبٌ بلسانٍ متدل. ربما كان يتذكّره. وحينئذٍ، لمح لوپه مانويل إنريكِث، الزميل في المدرسة الذي كان دائماً خلفه في المركز التالي. كان مانويل يرتدي بِذلة رماديّة وربطة عُنق. مرّ بجانبه وألقى عليهم التحية مُلوِّحاً بيده.
عقّبت فرانثيسكا:
- إنجازٌ طيّب ما فعله هذا الشابّ. أرسله أبوه ليتعلّم، وها هو يمضي ليصير محامياً.
عندما وصل لوبه إلى مَورد الماء، صادفه من جديد. وفجأةً، أراد أن يناديه. لكن الصيحة بقيت محبوسةً ككُرةٍ في حنجرته.
- إيه!. قال ذلك فقط، أو شيئاً كهذا.
التفت مانويل ناظراً إليه، وعرفه. بدا ذلك لا يُصدّق: لقد عرفه. راح يبتسم:
- لوبه! يا رجل! لوبه..!.
من كان في وسعه فهم ما كان يقوله؟ أيُّ لكنة غريبة لهؤلاء الرجال! كم غير مألوفةٍ هي الكلمات التي تخرج من الثقوب المُعتمةِ- أفواهِهم! دمٌ ثقيل أخذ يحتقن في شرايينه بينما كان يُنصت إلى مانويل إنريكِث.
فتح مانويل علبة مسطّحة فضيّة اللون، تحتوي سجائر لم ير لوبه في حياته مثيلاً لها في شدّة البياض والإتقان في الصنع. قدّمها له مانويل مبتسماً.
مدّ لوبه يده. وشعر، في تلك اللحظة، بأنها كانت خشنةً ثخينة، كقطعة لحم مُقدّد. لم تكن في أصابعه لُيونة، لم تكن قادرة على التنسيق في حركتها. كم غريبة يد ذلك الآخر: يدٌ ناعمة، بأصابعَ تشبه ديداناً كبيرة، رشيقةٍ، بيضاءَ ومرنة. يا لها من يدٍ تلك، بلون الشمع، بأظافرَ مُقلّمة لامعة. أيّ يدٍ عجيبة: ولا حتى النساء لهنّ أيدٍ مثلها. تقصّت يد لوبه بتعثّرٍ داخل العلبة، حتى أمسكت في النهاية باللفافة بيضاءَ، هشّةً، غريبةَ الشكل بين أصابعه الغليظة؛ لقد بدت عديمة الجدوى، سخيفةً بين أصابعه. تجمّد الدّم بين حاجبيه مشكّلاً بينهما كرةً من دمٍ متكدّس متوقّف راح يختمر. سحقَ اللفافة بأصابعه واستدار إلى الخلف. لم يستطع أن يمنع نفسه، ولا حتى أمام دهشة مانويليتو الذي ظلَّ يناديه:
- لوبه! لوبه!.
كان إيميتيريو جالساً في الرواق، بقميص الشغل، يراقب أحفاده. كان يتأمّل حفيده الأكبر مبتسماً، ويستريح من العمل، بينما كانت قِربة النبيذ في متناوله إذا بسط ذراعه. اتّجه لوبه مباشرة نحو إيميتيريو وهو يستطيع رؤية عينيه المتسائلتين الرماديتين.
- هيّا، يا فتى. ارجعْ إلى ساغرادو، فقد حانت ساعة العودة.
في الساحة، كان هنالك حجر مضلّع مائل إلى الحُمرة. حجرٌ من تلك الحجارة التي لها حجم البطيخ يجلبها الصِّبية من أحد الجدران المهدّمة. تناول لوبه الحجر في بطءٍ بكلتا يديه. كان إيميتيريو، مرتاحاً، ينظر إليه بشيءٍ طفيف من الفضول. كان يدسّ يده اليمنى بين الحزام القماشيّ وبطنه. لم يسعفه الوقت حتّى ليخرجها: الضربةُ المُصمتة؛ الدّمُ الذي تناثر رذاذاً على صدره؛ الموتُ والمفاجأة كأخوين أدركاه، هكذا، ببساطة.
عندما اقتادوه مُكبّلاً، كان لوبه يبكي. وحينما راحت النساء تعوي كذئباتٍ، يتوخَّين ضربه وهنّ يتبعنه، رافعاتٍ خُمُرهنّ فوق الرؤوس في تعبيرٍ عن الحِداد وإظهارٍ للنقمة، «يا إلهي، هو، مَن آواه! يا إلهي، هو من جعل منه رجلاً! يا إلهي، كان سيموت جوعاً لو لم يُؤوه..، كان لوبه يبكي فقط، ويُردّد:
- أجل، أجل، أجل...
الترجمة عن الإسبانية كاميران حاج محمود

المساهمون