زها، بضاعتنا ردّت إلينا؟

زها، بضاعتنا ردّت إلينا؟

05 ابريل 2016
لوحة للفنان الأميركي أليس كنت ستودارد (Getty)
+ الخط -
على الأرجح أننا جميعًا قرأنا اسمها للمرة الأولى بلغة "الفرنجة": Zaha Hadid، ومن بعد ذاك أخذناه إلى لغتنا. ثمة مقالات (رثاءً ومدحًا) اختارت لاسمها الألف المقصورة لا الممدودة، ومقالات أخرى ارتأت ضمّ الزاي لا فتحها، ولعل الخيال اللغوي يجتهد فيضيف راءً لتغدو "زهرة حديد" لا "زها حديد". هذا دأبنا في الاهتمام العاطفي. إذن تصلح الاستعارة من الإنجيل المقدس لوصف حالتنا، نحن مثل مرثا التي قال لها المسيح: "أنت تهتمين وتضطربين لأمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد". 

ولدت زها في بغداد الخمسينيات من القرن المنصرم، تحت حكم الملك فيصل الثاني، الذي أسس مجلسًا للإعمار من بعدما نجحت الحكومة العراقية، وكان يرأسها توفيق السويدي، بالحصول على 50% من إيرادات النفط المصدر إلى الخارج من قبل شركات النفط العاملة في العراق. المال الوفير كله تقريبًا لعمران بغداد.

تقاطر "نجوم العمارة" إلى بلاد الرافدين؛ الفرنسي لوكوربوزييه، الإيطالي جيو بونتي، الألماني والتر غروبيوس وبالطبع الأميركي فرانك لويد رايت. 
كان رايت في التسعين من عمره حين زار بغداد، ولا تحتاج تلك المدينة الساحرة لبذل أي جهد لتفتن المعماريين أو غيرهم؛ تاريخ عمرانها هو البدء والمبتدأ، وخيال مدوّناتها الكثيرة تألّق في غير ما كتاب ذائع الصيت. كذا ما أن سمع رايت باسمها كميدان لخياله حتى قال : "بالنسبة لي، فهذه الفرصة تشبه إحدى قصص ألف ليلة وليلة التي فتنت الطفل الذي كنته".

في الرحلة إلى بغداد، ومن السماء، رأى رايت جزيرة صغيرة "تشعّ كالجوهرة" في نهر دجلة، فعدّل من خططه، وأراد لها أن تكون مكانًا لدار الأوبرا. سأل رايت إن كان ذلك ممكنًا، وقال الملك فيصل الثاني : "سيد رايت، الجزيرة لك". لم ينفذ شيء من مشاريع رايت، وبقيت رسوم مخططاته دليلًا دامغًا على أثر "بلاد مهد الحضارة الإنسانية" في نفسه.

من ذاك المهد، ولدت زها، وفي أجواء تحوّم فيها مفردات التوق إلى الديمقراطية والحرية والعمل الجاد. تصف زها في حوارها الأخير (21 فبراير/ شباط، 2016) في برنامج Desert Island Discs على أثير هيئة الإذاعة البريطانية، تلك الأيام، ودور والديها الكبير في صقل شخصيتها، وتوسيع مساحة التفكير لديها و"احترام" تمردها.

لكننا عرفناها من "لغة الفرنجة"، وبشكل أوسع حين غدت نجمة معمارية أكثر لمعانًا من كل الآخرين. لم نرَ ما قبل الشهرة والمجد اللذين حازتهما بالعمل الجاد والمستمر والعنيد. رأيناها في أوج نجاحها بعدما ذللت الصعاب، واحدًا فآخر. رغم ذاك، لم تركن ولم تهدأ، وأشارت في غير ما مناسبة إلى "الجندرية" في النظر إلى عملها: امرأة والأنكى عربية، بل ومتبرمة لا ترضى بالطريق الجانبي، تريد (ونجحت) الجادة العريضة: المشاريع الكبرى.

حين غدت زها "امرأة عربية ناجحة"، انتشينا بالقول : إنها منا، هي نحن. لكن لا، لا نستطيع القول البتة حين نرى صنيعها الباهر والوفير، يأتينا من "خارج دنيا العرب" : "هذه بضاعتنا ردّت إلينا". لم تستطع زها مثلًا الفوز بأي مشروع في بلدها العراق - حتى وإن صارت في الأوج، حتى وإن كانت توّاقة - الذي غدا بلد الفساد "الباهر والوفير". 

ولعلنا نستطيع أن نكون ضيوفًا على مائدتها الباذخة، لو التفتنا مثلًا إلى مسيرتها الطويلة أيضًا في التعليم، إذ يبدو أنها كانت في هذا المجال أيضًا "امرأة عربية ناجحة". طلابها، العرب منهم خصوصًا، في جامعات كثيرة، يقدّمون منصة مهمة للاستفادة من عملها، من طريقتها الشخصية في كل شيء؛ التعليق الباتر، النفور من الأوهام، والشغف بالعمل، والاستفادة من الفكر والفلسفة، ففي حوارها الأخير قالت زها إنها أرادت من خلال مشاريعها "إضافة الثقافة إلى المكان".

ولئن تكاثرت المقالات العربية عنها غبّ رحيلها المفاجئ، تسرّب إلينا الوهم مجددًا: "بضاعتنا ردّت إلينا"، وعلى عهدنا، سكبنا العاطفة كلّها ورثينا الممدوحة بالبلاغة في أوجها.

في خضم هذا كلّه، يمكر القول القديم بنا: "هذه بضاعتنا ردّت إلينا"، وبنبرة ساخرة مريرة، ما أن يطالع المرء مقالات قليلة متناثرة عمّا جرى في "لبنان الأخضر"، فمن بعد المعلقة الثالثة عشرة في التنويع على الفساد بالزبالة الطافية نهرًا قويًا، جاء الخبر عن "شبكة جونيه"، عن خمس وسبعين امرأة سورية أجبرن على العمل في الدعارة تحت طائلة التعذيب والسجن.

خمس وسبعون "امرأة عربية غير ناجحة" إلا في العبودية الجسدية والقهر والتعذيب. إنها الأجواء التي تحوّم فيها مفردات الشرّ كلها والتوق إليه. ها هنا نستطيع القول نعم "هذه بضاعتنا ردّت إلينا".

المساهمون