عمران بغداد

عمران بغداد

09 يونيو 2015
لوحة للفنان العراقي حنوش.
+ الخط -
تُقرأ المدن العريقة من وجوه مختلفة، أبواب كثيرة تفضي إلى بغداد، ربّما من أهمها باب العمران. رحلة انتقال بغداد من مدينة عثمانية إلى مدينة حديثة معاصرة. حامل لتاريخ شيّق، لا يشفّ فحسب عن المباني المميّزة فيها، ولا عن هندستها المدينية وكيف اتسعت، ولا عن طائفة من المعماريين العالميين والعراقيين الاستثنائيين الذين طبعوا مدينة الرشيد بأبنيتهم، بل تشفّ أيضًا عن تاريخ متداخل بين السياسي والاجتماعي. وإذ كان السياسي متنوعًا بمعنى تتالي الحكم في البلاد من "الانتداب البريطاني" إلى النظام الملكي، فـ "الجمهوري" أو البعثي بصورة أدقّ، وصولًا إلى الاحتلال الأميركي، فالوضع الكارثي اليوم، فإن الاجتماعي هو مساهمة أهل البلاد من خلال العلاقة مع الحكم. علاقة لم تقتصر على ما يختزلها الإعلام إلى مصطلحات مثل: ثورة، مقاومة، انتداب، انقلاب، استبداد، احتلال. لكن لها جانبًا "معماريًا"، يختزن في طيّاته ولادة الدولة المركزية واندثارها اليوم على ما يبدو.

اقرأ أيضاً: نصب شهرزاد وشهريار في بغداد

في البدء أقام العثمانيون طريق "قطار الشرق السريع" بالتعاون مع الألمان، لربط أوروبا بالخليج العربي، فشبه جزيرة الهند. وفي النهاية لم ينجز الطريق الرابط بين بغداد وبرلين، ونشبت الحرب العالمية الأولى. بيد أن حلم الطريق بين المدينتين، طبع مخيلة طفل ألماني اسمه والتر غروبيوس.
بعد الحرب، حكم البريطانيون العراق، وبغداد بمنزلة جوهرة التاج فيه. شُقّت الطرق الكبيرة، واتسعت المدينة، وبدأت المؤسسّات العامّة بالظهور. وأدّت مؤسّسة الأشغال العامّة دورًا رئيسًا في تنظيم بغداد المديني. وكان مديرها معماريًا بريطانيًا؛ جيمس ويلسون، الذي استحدث أحياء سكنية في بغداد من أشهرها حي السنك، وصمم أيضًا جامعة آل البيت بالأعظمية، التي نفّذت بالطابوق.
الطابوق هو الكلمة السحرية التي تفتح الباب أمام مساهمة العراقيين في "العمارة". فقطعة الآجر الصغيرة هذه، تختزن في طياتها تاريخ العراق في العمران الممتدّ لآلاف السنين. إن أحدًا لا يقدّر مزايا الطابوق كـ"الأستاذ" أو "الأسطى"، أي من سينفذ تصاميم المعماري، فيضع القطعة لصق أختها فأختها، وينشئ من خلال قطع صغيرة كلًّا هائلًا مبهرًا.
بدأ البيتون بالتسلسل إلى الأبنية، من دون أن يزاحم الطابوق في البداية، ثمّ ما لبث أن فعل، فاندثرت مهنة الأستاذ في نهاية عقد الخمسينيات، الذي كان مفصليًا في مسيرة التحديث العمراني لبغداد. وتشاء المصادفة أن الملك فيصل الثاني كان راغبًا بشدّة أن تكون بغداد مدينة كوزموبوليتية، فاستدعى أشهر المعماريين العالميين وقتها (جيو بونتي، فراند لويد رايت ولوكوربوزييه وغيرهم)، وكان من بينهم، ذاك الذي افتنّ طفلًا بطريق لم يُنفذ، يصل بغداد ببرلين؛ والتر غروبيوس ابن التجربة المريرة للحرب العالمية الأولى، ومؤسّس مدرسة الباوهاوس في العمارة الحديثة. فتكت الحرب، ومن ثمّ النازي هتلر بمصممي الباوهاوس وفنّانيه، وهاجر معظمهم إلى الولايات المتحدّة الأميركية. وكذا فعل غروبيوس، الذي وجد هناك مكانًا خصبًا لإطلاق أفكار تصاميمه وتنفيذها. تصاميم تحابي الضوء من خلال استعمال الزجاج بوفرة في الأبنية خصوصًا الأبنية المدرسية. وفي بعض التفسيرات أن الأمر كان سبيل غروبيوس لمواجهة أثر عتمة الحرب في نفسه. وتشاء المصادفة أن يعمل أستاذًا في جامعة هارفارد في مدرسة التصميم. ثمّ تشاء ثانية أن يكون ابن السفير العراقي أحد تلامذته: نزار علي جودت. وحين غدا السفير علي جودت الأيوبي رئيسًا للوزراء، ومسيرة تحديث بغداد تدور في ذهن الملك فيصل الثاني، ذهب غروبيوس إلى بغداد. وكان من بين طائفة من المعماريين العالميين الذين قدّموا مشاريع معمارية ضخمة، نُفذ بعضها وبعضها الآخر بقي حبيس الأدراج. غروبيوس هو الذي صمّم جامعة بغداد، وكان هذا أحد أكثر مشاريعه طموحًا، وقيل إنه مشروع حياته، حيث وضع موضع التنفيذ أفكاره عن قدرة البناء على خلق أجواء التسامح، وإقامة التوازن بين الوحدة والتنوع، ليكون المكان تجربةً فكرية وعاطفية للطلاب.

اقرأ أيضاً: حسين الأعظمي: لم يعد للفن مكان في العراق

احترم غروبيوس البيئة العراقية، فزرع في المكان شجر النخل والكينا، ووضع المباني بطريقة توّلد الظلال، ولم ينسَ الباحات الداخلية، ودورها في لقاء الطلاب وتلاقيهم. فكرة التعليم بحدّ ذاتها وجدت تجسيدًا لها في بوّابة الجامعة، التي هي عبارة عن ثلاث أقواس متوازية وفائقة العلو. لم تكن قمّة الأقواس متّصلة، جعلها غروبيوس عن عمد غير متصلة، لا لأن الأمر يتطلّب تقنية عالية فحسب، بل لأن المعنى الذي أراد بثّه من خلالها هو أن المعرفة والعلم مفتوحان، لا نهاية لهما.
سينتظر العراق عودة معمارييه من الدراسة في أوروبا، ومن أشهرهم رفعت الجادرجي ومحمّد مكيّة اللذان مزجا بين العمارة الإسلامية والغربية، ونفضا الغبار عن تلك القطعة الصغيرة؛ الطابوق الحاملة في ذرّاتها تاريخًا معماريًا عراقيًا بهيًا يقوم على الانفتاح والحوار. وهذه النقطة الأخيرة هي التي يركّز عليها ضيف ملحق الثقافة المعماري الدكتور خالد السلطاني، ويبدي ثقته بالمعماريين العرب. مع ذلك فإن الإطلالة على عمران بغداد ومآلها المؤسّف اليوم، تظهرها مدينة مقطّعة الأوصال، تكثر فيها الحواجز البيتونية والمتاريس ونقاط التفتيش، لكأنها تسجن نفسها بنفسها.

المساهمون