المشتى

المشتى

01 ديسمبر 2014
+ الخط -
ظنّ الأب اليسوعي أن هذا القصر من آثار بني غسّان، وطفق يعدّد البراهين. لم يكن البناء الفريد وقتها خِلوًا من واجهته المذهلة التي تجمع عناصر العمارة المحلية العربيّة وأثر العمارة الرومانية: "هذا وإن من دخلَ لزيارة هذه الآثار لا يستطيع أن يضبطَ نفسه عن الانذهال لدى منظره وجهَ البناء الخارجي.

وهو كلّه مجمّلٌ بالنقوش البديعة، ترى من جملتها جفنة محكمة الصورة، ذات أغصان وسروغ مشتبكة تمتدّ على طول البناء في خلالها طيور وحيوانات لا حقيقة لوجودِها كالأسود المجنّحة والعنقاء، وكلّها على هيئات غريبة تمرح وتنقر حبوب العنب أو تشرب من الكؤوس".

اتجاه البناء حيّر الأب اليسوعي، إذ كانَ واضحًا اتجاهه صوب القبلة، وإذ نفى عنه كلّ أثر رومي كتب: "وقد رجّح البعض أن أصل البناء من عمل الروم، بيد أن للعرب في صناعته يدًا وعليه، سلّموا بأن هذا القصر بدء الهندسة العربية".

وهذا صحيح إذ إن الثابت تاريخيًا أن الأمير والشاعر الأموي الوليد بن يزيد (743-744م) الذي لم يحكم إلا سنةً واحدة وشهرين، ومات مقتولًا هو الذي أمر ببنائه. لم يسمِ الأمير قصره بالمشتى، بل البدو المقيمين في تلك الناحية.

موت الأمير وانطفاء الحكم الأموي، تركا البناء المصنوع من الحجر الكلسي والطوب المشوي غير مكتملٍ، ثمّ تخلخل البناء بسبب زلزالٍ ضرب المنطقة أيضًا. لكنّ القصّة كلّها في واجهته التي أذهلتْ هنري لامنس. 

فبعد سنوات لا تتجاوز الخمس من مرور اليسوعيّ في الأرض الهاشمية، أهدى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني الواجهة البديعة إلى القيصر الألماني فيلهلم الثاني، وقد تمّ تفكيك الواجهة قطعةً قطعة، ونقلت عن طريق سكة حديد بغداد - برلين.

القيصر الحاذق أهدى الواجهة الخلبيّة بدوره عام 1903 إلى المتاحف الملكية في برلين، وبعد عامٍ فحسب، تأسّس متحف الفنون الإسلامية. واليوم في متحف برغامون في جناح الفنّ الإسلامي، يصابُ الزوار بالذهول آن ينظرون إلى واجهة المشتى التي يبلغ عرضها ثلاثة وثلاثون مترًا، وترتفع لخمسة أمتار.

لا ليست المقاييس هي السبب، بل تلك النقوش البديعة التي تؤلّف فردوسًا ولا أجمل. شيءٌ يشبه الدانتيلا؛ حجرٌ مخرّمٌ بنقوش، لكأنّه زنارٌ من السحر. مثلثات متساوية الساقين على طول شريط الواجهة المتعرج، وزهور تكاد تنطق بين ساقي المثلث تارة، وفوقه تارةً أخرى بتناوبٍ يبهج العين. ما أن يقترب الناظر من هذا الفردوس الحجري، حتّى يرى عالم الأمير الأموي مصوّرًا: حيوانات أسطوريّة، طيورٌ، وغرافين وتنين طاووسي، وشخصٌ نصفه الأسفل فرسٌ، وكلبٌ مجنّح، والماء وغصينات الكرمة يحيطان بكلّ هذه المخلوقات.

المساهمون