الجفرا.. حكاية الأرض الصامتة

الجفرا.. حكاية الأرض الصامتة

06 يوليو 2015
عبد الحي مسلّم/ فلسطين
+ الخط -

وأنا أفكر في شخصية "كثيرة البكاء" الواردة في الأساطير المكسيكية، تلك التي أنبأت بأفول الحضارة الأزتيكية، تخطر على بالي الغولة التي طالما استخدمتها أمَّهاتنا في تخويفنا. فكلتاهما تتقاسمان نفس الجندر، وتُستخدمان كرمزٍ للترويع، وكلتاهما تُنبئان بخطرٍ محدقٍ بالناس.

ظلّت شخصية "كثيرة البكاء" حاضرة في ذاكرة المكسيكيين، بوصفها المرأة التي كانت تنتحب على ضفاف الأنهار. وحين سقطت الحضارة الأزتيكيَّة، أدركوا أنَّها كانت تتنبَّأ بأفولها دون أن يفهمها أحد. ومع أنَّها لم تعد تنتحب كما كانت، إلَّا أنَّها ما زالت باقية في وعي المكسيكيِّين إلى اليوم، حتَّى إنَّ بعضهم يدّعي أنه ما زال يسمع بكاءها.

تماماً كالغولة، التي كانت تتَّخذ مرّاتٍ دور الأمّ في حكايا أُمِّنا الغولة، أو تكون في أحيان أخرى بنتاً من بناتها. ولقد ظلّت في ذاكرتي، أكثر تأثيراً من الغول نفسه، ولا بأس في ذلك، فعلى الأقل لتكن المرأة الغولة فاعلة في المجتمع أكثر من الرجل الغول. وها قد جاء دوري في قصِّ حكايات الغولة على أطفالي، الغولة التي أدركتُ الآن أنَّها قد تكون الدولة أو المجتمع أو أفراده. أيّاً كان، عدا أن تعني الغولةُ الغولةَ ذاتها.

وبعيداً عن حكايات الغولة المرعبة -التي راق لأمّهاتنا قصَّها علينا- فإنَّ لجفرا حكايةً أخرى، تتَّسم ببعد عاطفيٍّ؛ فهي الفتاة التي رفضت الزواج بشاعرٍ، هو أحمد عزيز علي حسن، مفضَّلة الزواج بآخر. ثم هناك جفرا ثانية، هي حبيبة شاعرٍ آخر، هو عز الدين المناصرة والتي استشهدت في قصف إسرائيلي لبيروت.

وكما حدث مع "كثيرة البكاء"، وكما حدث مع الغولة، دخلت جفرا -باسمٍ مستعار- الفنَّ والتراث الفلسطينيَّين. دخلت إلى القصيدة ودخلت إلى الأغنية، دون أن تدرك ذلك، دخلتهما رغماً عنها ودون أن تُستأذن. لربّما تعاطفت جفرا في ما بعد مع أحمد عزيز، ولربّما تذمَّرت من تلميحه طوال الوقت تعلَّقه بها، وهو الذي قال في قصيدته العاميّة، إنّها رفضته من أجل من هو أكثرُ مالاً وجاهاً منه، رافضاً أن يطرح على نفسه فكرة أنَّها من الممكن أن تكون قد رفضته لشخصه، ومفوِّتاً عليها فرصة إيضاح موقفها.

عاشت جفرا وماتت من دون أن تجرؤ على التعريف بنفسها، وبدون أن تتاح لها فرصة "التعجرف" على النساء حولها، بوصفها أيقونة. وفي حين ظلَّ الشاعر يردِّد اسمها -الذي اختاره بنفسه- حتّى بعد زواجه، ظلَّت جفرا تُنكر نفسها في القصيدة.

صارت جفرا بعد النكبة، رمزاً للحلم الصعب، وللأرض الغائبة. صارت رمزاً رغماً عنها وعن شاعرها. صارت رمزاً ليس فقط لتلك الأرض السليبة، بل للأرض الصامتة، تلك التي يتحدَّث الآخرون على لسانها، الأرض التي لم تعد تتكلّم. لم تعد حتَّى "تتكلّم عربي".

المساهمون