شِعر أمازيغي بالصمغ الأسود

شِعر أمازيغي بالصمغ الأسود

10 يناير 2019
فريد بلكاهية/ المغرب
+ الخط -

كنتُ أكتب الشّعر خلسةً بالصمغ الأسود فوق اللوح حجري اللون، وبأقلام قصبية، حين سمعت زغاريدَ، فأقسمت أن أعود. هزّني حنين غريب إلى البلد، وأهل البلد، إلى الأحباب والأشجار والأحجار والحيطان، الحيطان خاصّةً.

جمعت أغراضي وتوجّهتُ إلى الأستاذ أستأذن منه بالانصراف.

- كان بودّي أن تُكمِل دروسك في فاس لتصبح قاضياً، أو عادلاً، أو كاتباً في أحد الدواوين السلطانية.

- أنت تعرف يا سيّدي أنه لا طموح لي في كلّ هذا. حفظتُ القرآن والموطّأ وبعض أجزاء البخاري وسيدي خليل، وأنا الآن أحفظ الألفية لأُتقن اللغة العربية. تدرّبتُ عندكم على قسمة التركات وكتابة وثائق المعاملات، وهذا يكفي. إنه غاية ما يحتاجه أهل قريتي.

- وحفظتَ الأوراد والشعر الأمازيغي أيضاً، أتظنُّ أنّني لا أعرف؟

- يسَّر لي بلدكم مجالسة الأخيار من الفقراء والجوّالين بين أفريقيا، والحج، والأندلس، وفاس. وتهت في الصحراء خارج الأسوار أُصغي لشعراء الأعراس ومنازلات البدو.

مسح على رأسي ووهبني بعض المال الذي أقسمتُ أن لا أصرفه ليكون بركةً لي ولأهل بلدتي. ورحلت من المدينة التي لا ترى فيها النساءَ إلا من وراء حجاب، عائداً إلى المزرعة والبساتين والسواقي، والغزل ونسج الكلام المباح.

بعد أيّام من وصولي، نفد مخزون الملح من الدار، وانتدبني الأعمام للسفر إلى أعلى الوادي حيث المناجم، لأقايض المعدن بالتمر. فرحت وحزنت في الوقت نفسه: فرحت لأنني سأسافر إلى منابع وادينا الكبير، حيث يتغيّر الحال من النخيل والزيتون نحو الخوخ والجوز، ومِن الامتداد إلى المضايق، وحزِنت لأنهم لم يُمهلوني حتّى أسترجع أنفاسي وأزور المزرعة فدّاناً فدّاناً، كما كنتُ أفعل من قبل.

أقمتُ عند معارفنا في أعلى الوادي، أبناؤهم مثل إخوتي، في الخريف يحلّون عندنا لجمع التمر، وفي الصيف ربّما رحل عندهم أحدنا لأكل الخوخ وجمع الجوز. وكنتُ كل عشية أتجوّل في حقولهم غير المشجرة، ألاطف فتياتهم بحلو الكلام البريء. حتى ذلك اليوم الذي اقتربَت فيه نحونا صغراهم.

- لا مكان للأطفال معنا. قلتُ.

- لستُ طفلةً، فجرّبني بالشعر وما شئت.

في المساء، استجمعتُ قواي وجرأتي وطلبت يد الفتاة، وأقامَ أهلُها عرساً حتى دون أن أخبر أهلي.

عندما رجعت، سألني أهلي عن الملح، وأشرت إلى الهودج.

بعد قصّة الملح، أقمتُ إماماً في الحارة التي تُوجَد وراء الوادي. وجدتُهم فضلاء وكراماً وأغدقوا عليّ بالفواكه والقمح. غير أن عوائدهم كانت خوارجية، كانوا يحتقرون التراتبية السنّية وأفضلية آل البيت. وكثيراً ما كنتُ أنهاهم عن ذلك، حتى ضاقوا بي ذرعاً وأدخلوا حماراً إلى المقصورة، قالوا نفضله عليك.

غضبتُ ودعوت عليهم ألّا يكتمل عندهم أربعون فارساً حتى لا يُحسَب لهم حساب بين القبائل، وهاجرت إلى أحراش أحرقتها وبنيت بها خلوة، ومدرسة قرآن، ومقبرة، وزاويةً أحمي بها من لا عصبة له، وأُطعم الفقير وابن السبيل بحطبٍ يأتيني من الحارة التي دعوتُ عليها، تذللاً وتوبة.

وعمرت الدار، وملكت الزاوية حق صبيب ماء الساقية ليوم وليلة، وتمدّدت المزرعة نحو الصحراء بسواعد الخمّاسين، وترفه الساكنة بصناعة الصابون وماء الورد وزهر البرتقال، إلى أن حلّ المستعمرون، فمنعوا الزاوية من السقي.

أجهزوا على كل شيء. وربما حسناً فعلوا.


* كاتب من المغرب

المساهمون