مدن عربية تغرق

مدن عربية تغرق

08 نوفمبر 2015
مياه الأمطار تُغرق حيّاً في الإسكندرية (تصوير: علاء القصّاص)
+ الخط -

تبدو فكرة "غرق" المدينة العربية في القرن الواحد والعشرين، أقرب ما تكون إلى حبكة لرواية من روايات الخيال العلمي، أو تلك الأفلام التي تبرع في ابتزاز المخيال البشري، وتدفعه بكل قسوة إلى زاوية يأبى الذهن أن يستسلم لتفاصيلها المروّعة أو قبولها، حتى ولو من قبيل الخيال.

لكن المدينة، إياها، تبدو مستسلمة هذه الأيام لما يتجاوز الخيال والحبكات الروائية، إلى واقع تتصدّر تفاصيله وصوره الأليمة نشرات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي: "لقد غرقت عمّان والإسكندرية!" وكذلك طرابلس الغرب.

هكذا، ببساطة شديدة، تحولت شوارع تلك المدن إلى أنهار تجرف مياهُها السيارات وعربات الباعة المتجولين في مشهد يعيد إلى الأذهان كوارث مضت؛ اعتقد بعضهم أن المدينة وبما تمتلكه من حصانة العمارة والمدنيّة، قد تركت كل ذلك خلف ظهرها.

لحسن الحظ طبعاً، لم يصل أمر غرق شوارع المدن، من اليمن شرقاً إلى الإسكندرية غرباً، حتى اللحظة إلى ما وصلت إليه كوارث طبيعية أخرى خبرناها في العشرين أو الثلاثين عاماً الماضية، تسونامي مثلاً، ولم تصل لتكون على شاكلة الكوارث العظيمة التي قرأنا عنها في كتب التاريخ، مجاعة الصين في بداية القرن الثامن عشر.

لكن القصص التي تأتي تباعاً عن مواطن عراقي يسكن جنوبي بغداد عَبَر الشارع الرئيسي "سباحةً" إلى منزله الواقع في الجهة الشرقية، أو تلك الصور التي تتداولها الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي عن شكلٍ لا نعرفه من عمّان بينما المياه تغمر شوارع بأكملها، أو فيديو لمواطن مصري يندب الحظ على شقته المتواضعة التي أتت المياه عليها كلها، وآخر لعامل مصري غرق أبناؤه في سيل عمّان الجديد.

لم تكن هذه الصور سوى تجسيدٍ حي للكارثة التي أطاحت بثبات صورة المدينة في الذهن، صورة بنت نفسها من انشغالات المدينة بالمتين العالي من العمران، والحاجز من العدوان، تستحيل اليوم في وعي ساكنيها إلى مآلات الأسئلة الوجودية الأولى عن الحماية والعشب والمأوى.

في حين يذهب ذهن ساكني هذه المدن اليوم، وهم الأقدر الآن، على إحداث تلك المراجعة التي تبدو عبثية للتاريخ للوهلة الأولى، مراجعة تبدأ من شروط السكّان الأوائل للبراري حين اختاروا المرتفع الجبلي منها خوفاً من الطوفان والغزو، وتتجاوز حدود العودة الأسطورية إلى السهول بعدما منحتهم الطبيعة من أسباب وهم التصالح معها ما منحتهم.

في حين قد يأخذ تصالح هذه الأيام مع الطبيعة، خصوصاً في منطقتنا، شكلاً إهمالياً من الحكومات، تستكين فيه على المعتدل الطبيعي، دون أدنى تخطيط لمفاجآت الطبيعة والمتطرّف الطقسي؛ تطرّف طقسي قد يقود بلاد بأكملها إلى أبعد بكثير من غرق شوارع المدن هذه الأيام.

قد يبدو من المجحف أيضاً حصر الحديث عن الكوارث الطبيعية في دوائر الإغاثي والتنموي الصرف فقط، ثمة وعي متولّد أو ثقافة تعيد إنتاج نفسها بقوة أمام كل اختناق يحدث كرد فعل، إنها ثقافة تُتقن التعبير عن مَواطن الهشاشة والاختلاجات في النفوس في مثل هذه الظروف.

في العادة، تأخذ أفكار الفناء والنجاة حيزها، وبشكل ملحٍّ هذه المرة، بين الساكنين. أفكار تزيح انشغالات المستقبل الناعم بالبناء والعيش الرغيد، لتعيد موضعة مشاعر جديدة وملتبسة على طاولة الأولويات، صدمة ذهنية تحاكي في وقعها تأملات اللاجئين في مخيمات الإغاثة لجدران الخيمة، وما أكثرهم في عالم هذه الأيام.


اقرأ أيضاً: عمارة المعلومات: تخيُّل مدن المستقبل

المساهمون