نور الشريف.. صرخة في وجه "ولاد الكلب"

نور الشريف.. صرخة في وجه "ولاد الكلب"

12 اغسطس 2015
لقطة من فيلم "سواق الأوتوبيس"
+ الخط -

"الكلمة حصن الحرية. إن الكلمة مسؤولية. إن الرجل هو الكلمة. شرف الرجل هو الكلمة". كانت هذه الكلمات المأخوذة من رواية عبد الرحمن الشرقاوي "ثأر الله" في حوار متخيّل بين الحسين بن علي والوليد بن عبد الملك، آخر ما ألقاه الفنان نور الشريف (1946- 2015) في حوار أمام عدسة الكاميرا في برنامج حواري استضافه منذ أشهر معدودة، بعد أن نال المرض من ملامحه الأليفة ووجهه الممتلئ وابتسامته الطيّبة، المحفورة في مخيّلة الجماهير العربيّة التي أحبّته. بدا وداعاً شرح فيه حكمةً رافقته في أهم ما قدّم من أعمال.

بدا جليّاً منذ أواخر الستينيات في أفلام شارك فيها نور الشريف، من قبيل "بئر الحرمان" لكمال الشيخ و"قصر الشوق" لحسن الإمام و"نادية" لأحمد بدرخان، أن لهذه الموهبة التمثيلية الجيّدة قيمة مضافة ما، أتت حينها على شكل قبولٍ جارف ساعدته في ذلك ملامح وجهه المريحة، ووقع صوته المميّز على الأذن.

بالرغم من حصول الشريف على شهرته من خلال أفلام التيار المركزي للسينما المصرية في أعمال كـ "الحفيد" و"دمي ودموعي وابتسامتي" و"البعض يذهب للمأذون مرتين" وغيرها من الأفلام الجماهيرية، لم يمنعه ذلك من أن يتلوّن فنيّاً ويلتقي بمخرجين أصحاب مشروع سينمائي جاد.

قد يكون سبب هذا التقاطع هو اطّلاعه الثقافي عموماً، وشغفه وقراءاته عن السينما على وجه الخصوص. وما يُذكر في مرحلة السبعينيات من تجارب خاصة له، دوره في فيلم "زوجتي والكلب" (1972) لسعيد مرزوق، والفيلم السياسي "الكرنك" (1976) لعلي بدرخان.

لكن، إن أشرنا إلى نور الشريف صاحب الوجهة الفنيّة والاختيارات ذات النقد الاجتماعي، فلا شكّ أننا نتحدّث عن عقد الثمانينيات كبداية لولادته السينمائيّة الجديدة، حيث شكّل واقع مصر بعد الانفتاح الاقتصادي وما له من آثار سلبية على نسيج المجتمع المصري، الهاجس الأكبر فيها.

بدأت هذه المرحلة بفيلم "أهل القمّة" عن قصة نجيب محفوظ وإخراج علي بدرخان، جسّد فيه دور زعتر النوري، اللص الذي تحوّل إلى تاجر ثريّ تزوّج من ابنة أخ الظابط الذي كان قد اعتقله في الماضي، في إشارة إلى تآكل الطبقة الوسطى وبداية زمن "الفهلوة".

استمرّ في هذا الخطّ النقدي، من خلال شراكته الفنيّة والتقاء ميوله اليسارية مع أحد روّاد الموجة الثانية للواقعية، المخرج عاطف الطيّب. شراكة أثمرت أهم ما قدّم ضمن ما كان يسمّيه الطيّب بـ "سينما ضد ولاد الكلب"، تلك الصرخة التي جلجلت في نهاية فيلم "سوّاق الأوتوبيس" (1982)، على وقع موسيقى نشيد "بلادي بلادي" في الخلفية، لدى مطاردته لأحد اللصوص الذين اعتلوا الأوتوبيس.

تناول الفيلم قصة تفكّك عائلة وضياع الورشة التي تملكها بسبب تناحر الإخوة، تحت وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة، في رمزية تهدّد بضياع الوطن.

هذه الرؤية سنراها بشكل أكثر سودواية، لدى تعاونه مع الطيّب في أفلام من قبيل "ليلة ساخنة" (1996)، وخصوصاً "دماء على الإسفلت" (1992)، إذ يصل الحال بأسرة موظّف حكومي إلى توريط الأب في قضية سرقة ملفّات حكومية، لسداد دين ناجم عن تجارة أحد الأبناء بالمخدّرات، ولجوء الابنة إلى الدعارة للهروب من الظروف الماديّة الخانقة. ينتهي الشريط بالدكتور ثناء (نور الشريف) حاملا جثة أخته القتيلة ولاء على الإسفلت بعد أن أقدمت على الانتحار.

من أهمّ ما يُحسب للشريف والطيّب في دربهما المشترك، عدم تقوقعهما في الشأن المصري، إذ قدّما واحداً من الأفلام الروائية الطويلة القليلة في السينما المصرية التي تناولت الفلسطيني بطلاً رئيسياً في شريط "ناجي العلي" (1992)، الذي هوجم صُنّاعه في مصر والدول العربية من قبل أقلام قصيرة النظر رأت فيه ترويجاً لمواقف رسام الكاريكاتير الفلسطيني ضدّ الأنظمة العربية عموماً ومصر ودول الخليج تحديداً.

أمّا في محطّاته مع المخرج يوسف شاهين، فقد اكتسب ثقلاً آخر لثقة أيقونة كـ "جو" به، ليجسّد شخصيّته في "حدّوتة مصرية"، محاولاً قدر الإمكان عدم تقليد الأستاذ. لكن التجربة الأنضج وصاحبة التقاطاعات الأكبر مع شخصية الشريف، كانت في شريط "المصير" (1997) الذي جسّد فيه باقتدار شخصية الفيلسوف الإسلامي ابن رشد، وبات ذلك التداخل بين الشخصيتين مطبوعاً في أذهان الجماهير، لإتقانه هذه النوعية من الأدوار، ولمواقفه المتنوّرة التي طالما عُرف بها.

وعند اتجّاه الفنان السينمائيّ النشأة إلى الدراما التلفزيونية في منتصف التسعينيات لتعثّر حال السينما وقتها، استطاع استقطاب قطاعات عريضة من الجماهير من خلال شخصية الحاج عبد الغفور البرعي التي جسّدها في مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي".

توّج الشريف هذه الجماهيرية مع بداية الألفية الجديدة مع مسلسل "نساء الحاج متولي" الذي أغضب شريحة من محبّيه، للأجندة الذكورية التي غصّت بها أحداث العمل، الأمر الذي كان غير متوقّع من فنان بثقافةِ ويساريّةِ نور الشريف. ومع ذلك أحبّه حتى منتقدوه، فمن الصعب الإفلات من سحر تقاسيم وجهه المحبَّبة، التي طالما جعلت منه ابناً وأخاً وأباً في كل بيت عربي.

رغم تغيّر المعادلة السينمائية في العقد الأخير، وقلّة مشاركاته السينمائية بحكم التقدّم في العمر والتركيز على المسلسلات الرمضانية، إلّا أنّ للشريف مشاركات هامّة في أفلام انتقدت الوضع الاجتماعي والسياسي في مصر القرن الجديد في أعمال من قبيل "عمارة يعقوبيان" لمروان حامد و"دم الغزال" لمحمد ياسين.

اختتم الممثل الراحل مسيرته الفنية بشريط "في توقيت القاهرة" الذي خرج إلى صالات العرض بداية العام الحالي، حاول من خلاله أن يقهر وعكته الصحية، ولم يمهله القدر كثيراً فغادرنا بعد أن ترك بصمة فنية جادة في الذاكرة الجمعية العربية.

المساهمون