النفس الوحيد والأخير لصحراء

النفس الوحيد والأخير لصحراء

06 مايو 2019
(زوريتا أمام عمله "بحر الألم" مستلهم من غرق اللاجئين)
+ الخط -

صحراء أتاكاما

راؤول زوريتا (1950)


أ‌. لننظر إلى صحراء أتاكاما.
ب‌. لننظر إلى وحدتنا في الصحراء
لكي يصبح المشهد أمام هذه المظاهر قفراً
صليباً يمتد فوق تشيلي ووحدة مظهري
ويرى خلاص المظاهر الأخرى:
خلاصي أنا في الصحراء.
ج. ثم من سيتحدث عن خلاص مظهري.
د. من سيتحدث عن وحدة الصحراء.
لكي يبدأ مظهري بلمس مظهرك، ويقوم مظهرك
بلمس ذلك المظهر الآخر، إلى أن تصبح تشيلي
كلّها مظهراً واحداً بذراعين مفتوحتين: مظهراً طويلاً مكلّلاً
بالأشواك.
هـ. عندئذ لن يكون الصليب إلّا انفتاح
ذراعي
مظهري.
و. وسنصير حينئذ إكليل الشوك.
في الصحراء
ز. ثم، مصلوبين بالمظهر، كصليب
ممتد فوق تشيلي، سنكون قد شهدنا، إلى الأبد،
النَفَس الوحيد والأخير لصحراء
أتاكاما.


■■■


دعاء

زبغنييف هيربرت (1924-1998)


إلهي،
امنحني القدرة على كتابة جملة طويلة قوامها، على جري العادة ومن نَفسٍ لآخر، خطٌ ممدود كجسر معلّقٍ كقوس قزحٍ، كألِف وباءِ المحيط
إلهي امنحني قوة ورشاقة بنّائي الجمل الطويلة والفسيحة كأشجار البلوط، كالوديان العظيمة؛ عساها تشمل عوالم، وظلال عوالم، وعوالم أحلام
عسى أن تحكم الجمل الرئيسية أذيالها الثانوية بكل ثقة، وأن تضبط مساراتها، كباسّ مستمر دائري ومعبّر، وأن تصمد من دون أن تتأثّر بالعناصر المتحركة، وأن تجذبها إلى نفسها كما تجذب النواة الإلكترونات حسب قوانين الجاذبية غير المرئية. أصلّي إذاً من أجل جملة طويلة أنحتها بعرق جبيني، تمتد طويلاً حتى تصير كل كلمة فيها انعكاساً ممكناً لكاتدرائية، لموشّحة، للوحة ثلاثية،
وللحيوانات بكافة أحجامها، ولمحطات القطار، والقلب الذي يطفح بالأسى، والمنحدرات الصخرية، وخطوط القدر في الكف.


■■■


الأمهات

روبن كوست لويس (1964)


نجتمع - أحياناً - بين الساعات الذابلة،
بين صدوع الخطط التلقائية،
ونرفض التفكير بالإيجار أو بالطعام أو
بمدى سلاسة الانتقال من كون المرء رجلاً إلى كونه راضياً.
وبمدى ديمقراطيته. ندخّن "اللاكي سترايك"،
وتفرك إحدانا الأخرى بالإسفنجة، فينزلق الرمادي فينا
والرمادي منا خجلاً في المجاري.
لا حاجة لنا للتعبير عن تحفظنا الشديد،
لا حاجة للواحدة منا للتفوُّه
بما هو واضح. يصيبني الدوار. فأنسل، وأصابعي
مزدانة بأبخرة البصل والثوم، خلسة
وأرجع إلى دوامي، ثم أراقب يديها بصمت
وأُعيد شدّ جواربها إلى الأقمار المطاطية
المعذبة والمرتعشة عند حزامها.


■■■


16 مايو 1973

فيسوافا شيمبورسكا (1929-2012)


أحد التواريخ الكثيرة
التي لا تذكّرني بشيء.
أين كنتُ ذاهبة ذلك اليوم،
وماذا كنت أفعل - لا أدري.
من قابلتُ، وعمّ تحدّثنا،
لا أذكر.
ولو حدثت جريمة يومها في مكان قريب،
لما كانت لديّ حجة غياب.
توهجت الشمس وماتت
في نهاية أفقي.
ودارت الأرض دورتها
من دون أن تدوّن مذكراتي.
حبذا لو أني
مِت يومها مؤقتاً،
بدلاً من أن أكمل العيش
وأنا عاجزة عن تذكّر أي شيء.
فأنا لم أكن شبحاً، في نهاية المطاف.
بل تنفستُ، وأكلتُ،
ومشيت.
كانت خطاي مسموعة،
وخلّفت أصابعي
بصمات على مقابض الأبواب.
كما التقطَت المرايا انعكاسي.
وارتديتُ شيئاً ما، بلون ما.
ورآني، بالتأكيد، أحدٌ ما.
ربما وجدتُ شيئاً ضائعاً.
ذلك اليوم.
ربما فقدتُ شيئاً ووجدتهُ في ما بعد.
كنت يومها مليئة بالمشاعر والأحاسيس.
أمّا الآن فكل ذلك لا يعدو كونه
بضع نقاط بين قوسين.
أين كنتُ مختبئة،
أين دفنتُ نفسي؟
ليست بالخدعة الهينة
أن أختفي حتى من نفسي.
أنفضُ ذاكرتي.
عسى أن تستيقظ إحدى الأشياء الساكنة في جذوعها
والنائمة منذ سنين،
برفرفة.
لا،
أنا بالتأكيد أطلب الكثير.
لا شيء أقل من ثانية واحدة وكاملة.


*


عن الموت، من دون مبالغة


لا يستطيع الموت أن يتقبّل مزحة،
أو أن يجد نجمة، أو يبني جسراً.
كما لا يعرف شيئاً حول الحياكة، أو التنقيب، أو الزراعة،
أو بناء القوارب، أو حتى تحضير الكعك.
لا يستطيع الموت أن ينجز
أجزاء مهمة من صنعته:
كحفر القبور
وصنع التوابيت،
والتنظيف بعد إتمام المهمة.
ولانشغاله بالقتل،
ينجز الموت عمله بكثير من الرعونة،
ومن دون أي حساب أو مهارة.
وكأن كل واحد منّا ضحيته الأولى.
للموت انتصاراته،
ولكن انظروا إلى هزائمه الفادحة،
إلى تسديداته الخاطئة،
ومحاولاته المتكرّرة
أحياناً لا يستطيع الموت
أن يُبعد ذبابة.
وكم مرة سبقته
يرقانة زاحفة.
كل هذه البُصيلات، والقرون،
والمجسات، والزعانف، والقصبات،
والطيور المتزاوجة، والفراء الشتوية،
إنما هي دلائل على
افتقار الموت إلى الحماسة.
لا تعين الموتَ النوايا السيئةُ.
حتى يد العون التي نمدّها له - عبر الحروب والانقلابات -
لم تساعده حقاً، حتى الآن.
فالقلوب تنبض من داخل البيوض،
والهياكل العظمية تنمو لدى الأطفال.
والبذور المتفانية تنبت أوراقاً ضئيلة.
وحتى الأشجار الطويلة تنهار في بعض الأحيان.
وكل من يتغنى بقدرة الموت الكليّة
دليلٌ
على نقصها.
ليست هناك حياة
لم يكن الخلود قدرها
ولو لوهلة.
والموت
إنما يصل متأخّراً على الدوام.
عبثاً يشد مقبض
الباب الخفيّ.
ويعجز عن محو كل ما عشته
حتى هذه اللحظة.


■■■


قصيدتان

آدريان ريتش (1929 -2012)


1
في كل أرجاء هذه المدينة تومض الشاشات،
تعرض أفلاماً إباحية، ومصّاصي دماء مُتخيّلين،
وأذلّاء مستباحين ينحنون لضربات السوط،
وعلينا أن نمشي أيضاً... كأنما بمشينا البسيط،
بمرورنا بالقمامة المنقوعة بالأمطار، وقساوات الصُحف
في حاراتنا.
علينا أن ندرك أن حيواتنا لا يمكن فصلها
عن هذه الأحلام النتنة، وقرقعة الحديد، والمهانات،
وزهرة البغونية الحمراء، التي تلمع، عرضة للخطر،
على حافة شبّاك في الطابق السادس،
أو عن الفتيات ذوات السيقان الطويلة، وهن يلعبن الكرة
في ساحة المدرسة الإعدادية.
لم يتخيّلنا أحد. نرغب بأن نعيش كالأشجار،
كالجمّيز نلتهب في الهواء الكبريتي،
ترقّشنا الندوب، وتملؤنا البراعم الكثيفة،
وشغفنا الحيواني متجذّر أبداً في المدينة.

2
أستيقظ في سريرك. أدرك أنني كنت أحلم.
قبل ذلك فرّق بيننا منبّه الساعة،
وجلستِ أنت على مكتبك لساعات معدودة. أدرك الحلم الذي راودني:
فيه تدخل صديقتنا الشاعرة إلى غرفتي
حيث كنت أكتب لأيام متوالية،
وحيث تناثرت مسودات، ونسخ، وقصائد في كل الأرجاء،
وأرغب أنا بأن أريها قصيدة واحدة
هي قصيدة حياتي. لكنني أتردّد،
ثم أستيقظ. وقد قبّلتِ شعري
لتوقظيني. لقد حلمتُ بأنك كنت قصيدة،
هكذا أُخبِركِ، قصيدة أردت أن أريها لإحداهن...
ثم أضحك وأحلم من جديد
برغبتي بأن أريك لكل من أحب،
وأن نتحرّك في العراء سوية
والجاذبية تشدنا إليها، وهي ليست بالهيّنة،
وهي التي تُنزل العشب الخفيف كالريش
عرض هوائها المُرسل.


(القصيدة 1 و2 من "إحدى وعشرون قصيدة حب")

المساهمون